عن معاني «الشعبوية» واستخداماتها

يشغل الحديث عن «الشعبوية»1نُشر المقال في مجلّة آنفيبيا، الصادرة عن جامعة سان مارتين الوطنيّة. حيزاً كبيراً في النقاش السياسي والإعلامي، إذ قلّما يمرّ يوم دون أن نقرأ في الصحافة الأميركية، الشمالية والجنوبية، أو الأوروبيّة عموداً يحذّر من خطرٍ «شعبويّ» ما، من فنزويلا إلى اليونان، ومن اسبانيا إلى الأرجنتين. وبالإمكان أن نجد وصفاً لسياسيين بأنهم «شعبويون» حتى داخل الولايات المتحدة. في هذا، تبدو الشعبوية وكأنها وباءٌ مجهول: موجودة في كلّ مكان، لكن لا أحد قادر على تفسير انتشارها الواسع.

ماذا تعني «الشعبوية»؟ هل هناك فعلاً «تهديد شعبوي» للديمقراطيات في العالم؟

ولد مصطلح «الشعبوية» (وصِفته: «شعبوي») كمفهوم أكاديمي قبل أن يتحوّل لمصطلح ذي استخدام عام. وقد ظهر بدايةً في سياق المفردات السياسية لبلد محدد، كما تُظهر أغلب المفاهيم الأكاديميّة. وقد استُخدم مفهوم «الشعبوية» للمرة الأولى في نهاية القرن التاسع عشر لوصف نمط محدد من الحركات السياسيّة، فالمصطلح ظهر في روسيا عام 1878 لتسمية مرحلة من مراحل تطوّر الحركة الاشتراكية المحلّية. في إحدى دراساته الكلاسيكية، يشرح المؤرخ ريتشارد بايبس أن مصطلح «شعبوي» استُخدم حينها لوصف موجة العداء للثقافة التي انتشرت في عقد 1870، والاعتقاد السائد حينها بأن على الاشتراكيين أن يتعلموا من الشعب أكثر من محاولتهم أن يكونوا أدلاءً له. بعد ذلك بسنواتٍ قليلة، بدأ الماركسيون الروس باستخدام المصطلح، بشكل مختلف وسلبي، للإشارة إلى الاشتراكيين الذين يعتقدون بإمكانية أن يكون الفلاحون فاعلين أساسيين في الثورة، وأن المشاعات والتقاليد الريفية يمكن أن تكون أسساً يُبنى عليها المجتمع الاشتراكي المستقبلي. هكذا، تحوّل هذا المصطلح للإشارة، في روسيا وفي الحركة الاشتراكية العالمية، إلى الحركات التقدميّة التي تناهض الطبقات العليا في المجتمعات و-على عكس الماركسية- تتبنّى توجهات قوميّة وتتماهى مع الفلاحين.

بالتوازي تاريخياً مع روسيا، وإن دون علاقة مباشرة معها، ظهر المصطلح في الولايات المتحدة بعد عام 1891 كإشارة لحزب الشعب الأميركي2People’s Party، وهو الحزب الذي مرّ بشكل عابر في الحياة السياسية الأميركية، وكانت قاعدته الشعبية مكوّنة بشكل أساسي من المزارعين الفقراء، وحمل أفكاراً تقدّمية ومعادية للنخب. وكما حصل في روسيا، أشار المصطلح في سياقه الأميركي إلى حركة ريفية وذات توجّهات معادية للثقافة، وسرعان ما تحوّل إلى مصطلح ذي معنى سلبي كونه استُخدم بشكل أساسي من قبل المعادين لحزب الشعب. يشير تيم هووين إلى أن مصطلح «الشعبوية» بقي هامشيّ الاستخدام حتى عقد الخمسينات من القرن الماضي، حين تم تبنّيه من قبل الأكاديميا -من قبل عالم الاجتماع إدوارد شيلز وآخرين-، وإن بمعانٍ مختلفة وجديدة بالكامل. لا تعني الشعبوية، حسب إدوارد شيلز، نمطاً محدداً من الحركات السياسية، بل هي إيديولوجيا يمكن أن توجد في سياقات مدينية كما في الريف، وقد تظهر في كل المجتمعات باختلاف أوضاعها. «الشعبوية»، حسب تعريف شيلز، هي «إيديولوجيا الاستياء الموجّهة ضد نظام اجتماعي مفروض من قبل طبقة مضى على وجودها في وضع الهيمنة فترة زمنية طويلة، ويُفترض أنها تحتكر السلطة والثروة والامتيازات والثقافة». وكونها ظاهرة متعددة الأوجه، نجد «الشعبوية» متمثلة في حركات مختلفة فيما بينها، مثل البلاشفة الروس، والنازيين الألمان، والمكارثيين الأميركيين.. إلخ. الشعبوية تعني تحريك المشاعر غير العقلانية لدى الجماهير وتوجيهها ضد النخب السائدة، أي أن الشعبوية باتت تعني مجموعة الظواهر المبتعدة، كلٌّ على طريقتها الخاصة، عن الديمقراطية الليبراليّة.

عاد الأكاديميون لاستخدام مصطلح «الشعبوية» خلال عقدي الستينات والسبعينات من القرن الماضي بمعنىً مشابه بعض الشيء للاستخدامات السابقة، وإن متباين إلى حدّ كبير، إذ استُخدم لوصف مجموعة الحركات الإصلاحية التي ظهرت في العالم الثالث، وخصوصاً في أميركا اللاتينية، مثل البيرونيّة3نسبةً لخوان دومينغو بيرون، رئيس الأرجنتين بين عامي 1946 و 1955؛ و1973 و 1974. وهو السياسي الأرجنتيني الأهم في التاريخ المعاصر للبلد. للاطلاع على المزيد من المواد عن تاريخ الأرجنتين المُعاصر: «ذاكرة الجماجم»، الجمهورية (تشرين الثاني 2014)؛ «أمهات ساحة مايو»، الجمهورية (كانون الثاني 2015)؛ «يهود الأرجنتين: الوجود والازدهار والعاصفة»، الجمهورية (حزيران 2015)؛ «نيسمان: اللغز الصارخ»، الجمهورية (آب 2015). (المترجم). في الأرجنتين؛ الفارغيّة4نسبةً لغيتوليو فارغاس، رئيس البرازيل بين عامي 1930 و1945؛ و1950 و1954 (م). في البرازيل؛ والكاردينيّة5نسبةً للاثارو كارديناس ديل ريّو، رئيس المكسيك بين عامي 1934 و 1940 (م). في المكسيك. وقد قيّم جزء كبير من هؤلاء الأكاديميين أدوار هذه الحركات في منح حقوق أكبر للطبقات الأدنى في هذه البلدان بشكل إيجابي، لكنّهم أشاروا إلى مواصفات نمط القيادات التي ظهرت في هذه الحركات: شخصانيّة أكثر من كونها مؤسساتيّة؛ عاطفيّة على حساب العقلانيّة؛ وباحثة عن إجماعات أكثر من اهتمامها بالحفاظ على التعدديّة. كان هذا التقييم نابعاً من معايير ديمقراطيات العالم الأول «العادية» (أي الليبراليّة)، وفي هذا المجال تلاقت هذه الدراسات مع توجهات أكاديمية سابقة، كأعمال شيلز: التشارك في نظرة معياريّة حول كيف يجب أن تعمل الديمقراطيات الحقيقية، وكيف يجب أن يكون مظهرها.

هكذا، توسّع معنى مصطلح «شعبوية» في العالم الأكاديمي من استخدام ضيق مرتبط بالحركات الفلاحيّة إلى آخر أوسع، يصلح للإشارة إلى ظاهرة إيديولوجيّة وسياسية واسعة النطاق إلى حدّ كبير. في سبعينات القرن الماضي، كان بالإمكان الإشارة إلى حركات تاريخيّة متنوعة؛ أو نظم سياسية؛ أو أنماط قيادة؛ أو «إيديولوجيات استياء» تشكّل تهديداً للديمقراطيّة على أنها «شعبوية». عموماً، وفي كلّ الحالات، حمل المصطلح معانٍ سلبية.

أضاف إرنستو لاكلاو6إرنستو لاكلاو (1935-2014): فيلسوف ومنظّر سياسي وكاتب أرجنتيني ما بعد-ماركسي، عمل في التدريس في جامعة إيسيكس البريطانيّة. من مؤلفاته الهيمنة والاستراتيجيا الاشتراكية (بالتشارك مع شانتال موف)؛ و عن المنطق الشعبوي. (م).، وهو فيلسوف ما بعد- ماركسي، معانٍ إضافية للشعبوية ومختلفة بشكل كامل عمّا سبقها، مُساهماً في تعقيد إشكالية المصطلح. يقترح لاكلاو في أعماله استبدال مفهوم «صراع الطبقات»، بوصفه مواجهةً ثنائية متولّدة عن الطبيعة الذاتيّة للقمع الطبقي، بفكرة أن هناك عدداً كبيراً من التضادّات داخل كل مجتمع، وأن لهذه التضادّات طبائع متنوعة، اقتصادية وغير اقتصادية، وأنه من غير الممكن الحديث عن حتميّة تظافر المطالب الديمقراطية والشعبية في خيار موحّد ضد إيديولوجيا الكّتلة المهيمنة. هنا، يكتسب البُعد السياسي أهمّية أساسية لدوره في مَفصَلة تنوّع التضادّات. وضمن البُعد السياسي نجد أهمية جوهرية للخطاب السياسي، كونه العامل الذي يحقق التراكب بين المطالب المتباينة، ويؤدي لإنتاج «شعب» في مواجهة الأقلّية صاحبة الامتيازات. بهذا المعنى، نجد أن «الشعب» هو محصلة التحريك الخطابي أكثر من كونه فاعلاً سياسياً موجود بشكل مسبق. وتعتبر هذه الرؤية السياسية أن إنتاج «شعب» في مواجهة الكتلة المُهيمنة صاحبة الامتيازات، أي تركيب مطالب متنوعة ضمن تضادٍّ ثنائي، هو شرط جوهري من أجل تحقيق «تجذير الديمقراطية» (المصطلح الذي كان يحمل للاكلاو، على عكس خصومه الليبراليين، معانٍ إيجابيّة).

إرنيستو لاكلاو ( PATRICIO PIDAL/AFV)

إرنيستو لاكلاو ( PATRICIO PIDAL/AFV)

في عن المنطق الشعبوي (2005)، يستخدم لاكلاو مصطلح «الشعبوية» للإشارة إلى هذا النمط الخاص من العمل السياسي، الذي يحيل إلى «شعب» في مواجهة الطبقات المُهيمنة، إذ يقول: «تنطلق الشعبوية اعتباراً من تقديم العناصر الشعبية-الديمقراطية كخيار مضاد لإيديولوجيا الكُتلة المهيمنة». لم يكن استخدام تسمية «شعبوية» أمراً حتمياً، إذ كان بإمكان لاكلاو أن يستخدم مصطلحات أخرى لوصف نمط العمل السياسي هذا، فقد كان بوسعه، على سبيل المثال أن يتحدث عن «الشعبي-الديمقراطي» أو أي تنويعات مشابهة، لكنه قرر استخدام «شعبوية»، مقدّماً انقلاباً عمّا سبقه من أكاديميين، إذ منح المصطلح معانٍ إيجابيّة. «الشعبوية»، في فلسفة لاكلاو، تعني «تجذير الديمقراطيّة». وقد أدّت طروحات لاكلاو إلى ظهور مفكّرين ومثقفين عضويين ضمن حركات سياسية (مثل الكيرتشنريّة7نسبةً لنستور كيرتشنر، رئيس الأرجنتين بين عامي 2003 و 2007؛ وزوجته ماريا كريستينا فرنانديث، التي خلفته في الرئاسة بين عامي 2007 و 2015، وفي زعامة الحركة السياسية التي تشكّلت حول نهجه السياسي- الاقتصادي. (م). في الأرجنتين وبوديموس في اسبانيا) لا يتحرجون من الإشارة إلى أنفسهم كـ «شعبويين»، في كسر للمعنى القائم حتى حينه، والذي كان يفرض معانٍ سلبية للمصطلح. أدّى هذا الأمر أيضاً إلى تعزيز حجج الليبراليين ضد هذه الحركات السياسية بوصفها «تهديداً شعبوياً» يحدق بالديمقراطيّة.

كان استخدام مصطلح «الشعبوية» قد بدأ بالتوسع حين صدرت أعمال لاكلاو، لكنه دخل بعدها في حقل الاستخدام العام، وخصوصاً في العقود القليلة الأخيرة. فُقد أي ضبطٍ للمفهوم ومعانيه، وبات بالإمكان نعت أي شيء بأنه «شعبوي» في الصحافة اليوم، فقد باتت الشعبوية ضرباً من الاتهام المجاني، الذي يتم إطلاقه بقصد النيل من الخصوم عبر ربطهم بما يُصطلح أنه غير مسؤول، غير أخلاقي، سلطوي، غوغائي، مبتذل، وخطير.

في السنوات الأخيرة، قُدّمت بعض حكومات أميركا اللاتينية الرافضة للامتثال للسياسات الأميركية وتوصيات صندوق النقد الدولي على أنها حكومات شعبويّة. هكذا، اعتُبر أنّ حكومات فنزويلا ونيكاراغوا والأرجنتين وبوليفيا والباراغواي وإكوادور والبرازيل تمثّل «خطراً شعبوياً» على الديمقراطية في المنطقة. قد يعتقد المرء أنه قد فهم ما هو المقصود بـ «الشعبويّة» حين يطّلع على هذا الأمر، لكنه سيفاجأ حينها أن سيلفيو برلسكوني -وهو ليس عدوّاً للولايات المتحدة، ولا للشركات الكبرى بطبيعة الحال- يُعتبر شعبوياً أيضاً. لماذا؟ هو كذلك، حسب الإيكونوميست، لأن حكومته قامت على روابط «الزبائنية والفساد»، أو لأنه «يتكلم بلغة الناس العاديين في الشوارع» حسب تعبير معلّق سياسي آخر. بدورها، تعتبر صحيفة نيويورك تايمز أن الخطابات الأوروبية حول وضع القيود على الهجرة الداخلية أو المناهِضة للاتحاد الأوروبي هي خطابات «شعبوية». وجود إحدى هاتين السمتين يكفي لاكتساب صفة الشعبوية. أيضاً، يُعتبر بيبي غريللو، زعيم حركة «النجوم الخمس» الإيطالية، «شعبوياً» لأنه ينتقد الإستابلشمنت الإيطالي بقسوة. هكذا، نجد أنك لو تكلّمت كما يتكلّم الناس العاديون في الشارع، أو ناهضت الولايات المتحدة، أو كنت نقدياً تجاه توجهات الاتحاد الأوروبي، أو انتقدت الإستابلشمنت السياسي لبلدك، فسوف تكون شعبوياً. لا يهم هنا أن تكون يسارياً راديكالياً أم يمينياً متطرفاً، ففي اليونان نجد أن سيريزا اليساريّة تُصنّف كشعبوية، والتنصنيف نفسه هذا تناله حركة «الفجر الذهبي» النازيّة-الجديدة. هناك تضاد كامل في أفكار وأساليب عمل كلا الحركتين السياسيتين اليونانيتين، لكنهما، للمفارقة، وجدتا السبيل للانتماء للعائلة السياسية نفسها، عائلة «الشعبويين».

بالاطلاع على ما تقدّم ذكره عن الشعبوية، سيعتقد المرء، أياً تكن التعاريف المختلفة للمفهوم، أنه أمام ظاهرة سياسية بحتة، لكن الأمر ليس بهذه البساطة على الإطلاق. هناك اقتصاديون، مثل روديغر دورنبوسك، يرون أن هناك ما يمكن تسميته «شعبوية الاقتصاد-الكلّي»، وحسب هذا الوصف، يُعتبر «شعبوياً» في مجال الاقتصاد-الكلي ذلك الذي «يهتم بنسب النمو وتوزيع الدخل أكثر من اهتمامه باحتمالات التضخّم والعجز المالي، أو بالقيود الخارجية وردود أفعال الفعاليات الاقتصاديّة على السياسات التدخّلية المؤثرة على السوق». بالتالي، يبدو أن «شعبوية الاقتصاد-الكلي» هذه محصورة بنوع محدد من السياسات الاقتصادية، لكن عند متابعة النقاشات العامة سنجد أن أي فكرة غير منحازة بالكامل لمصالح الشركات الكبرى ستكون «شعبوية»، فعلى سبيل المثال، صرّحت غرفة التجارة الأميركية أن كل من «يحاول إلغاء نظام الرأسمال الحُرّ والمفتوح» إنما هو «شعبوي». تلقى باراك أوباما سابقاً اتهاماً بالشعبوية فقط لأنه صرّح أنه سيكون سعيداً لو حصلت زيادة طفيفة على الضرائب المفروضة على أصحاب رؤوس الأموال الكبرى. بدورها، اتهمت صحيفة وول ستريت جورنال هيلاري كلينتون بالشعبوية لأنها اعتبرت أن على الكونغرس أن «يركّز على خلق فرص عمل، وعلى تحسين دخول عائلات الطبقات الوسطى». كان هذا كافياً بالنسبة للصحيفة كي توجّه الاتهام بالشعبوية، إذ يكفي التصريح عن القلق حول مستويات الدخل كي يكون الاتهام بالشعبوية قائماً، فالدخل، كما نعلم، هو من الشؤون الخاصّة البحتة.

إذاً، الشعبوية ظاهرة سياسيّة، وهناك أيضاً شعبوية اقتصادية. هل هذه هي حدود الظاهرة؟ لا يبدو أن الأمر كذلك، فإضافة لما ذُكر سلفاً هناك ما سبق وأن اقترحه جيم ماكغيغان -وطوّره آخرون من بعده- عن وجود «شعبوية ثقافية»، أي تلك التوجّهات التي تُعلي من شأن الثقافة الشعبية بالتضاد مع أنواع أكثر «جدّية» من الثقافة.

كما نرى، يبدو أن «الشعبوية» قد تغلغلت في جميع مناحي الحياة.

في كلّ استخدامات المصطلح المتعددة، يبدو أن «الشعبوية» ليست أكثر من لاحقة تُستخدم لإضافة مصداقية مصطلحية على مفاهيم أقدم وأقل تطويراً، مثل «غوغائية»، أو «سلطوية» أو «قوميّة» أو «ابتذال». يُستخدم مصطلح الشعبوية، غالباً، من أجل الحطّ من قيمة أفكار وقرارات سياسية واقتصادية غير نمطيّة، ومن أجل ربط هذه الأفكار والقرارات بما هو بغيض، مثل النازية والعنصرية. بقولٍ آخر، «الشعبوية» مصطلح يُستخدم لوضع أفكار ومفاهيم شديدة التباين فيما بينها في الخانة نفسها، في ذات الوقت الذي يبني فيه حواجزاً تمنع المقارنة بين ظواهر قابلة للمقارنة والمفاضلة فيما بينها. لماذا توضع حكومات أميركا اللاتينية التي تعمل على بناء اتحاد الأمم الأميركية اللاتينية (UNASUR) -والتي تحظى بأغلبها بقوانين متساهلة مع الهجرة وغير عدائية تجاه الأجانب- في التصنيف نفسه مع أحزاب وتيارات فاشية وعنصرية ومُعادية للأجانب في أوروبا؟ لماذا يُعتبر رفع الضرائب على الأغنياء «شعبوياً» في أميركا اللاتينية، في حين يُعتبر خطوة متسقة مع الاشتراكية الديمقراطية في النرويج؟ لماذا اعتُبرت سياسات بيرون الاقتصاديّة «شعبوية»، في حين وُصف «نيو ديل» روزفلت بأنه توجه كينيزي8الكينيزيّة هي التوجهات التي صاغها الاقتصادي البريطاني جون مينارد كينيز (1883-1946)، والتي تدعو لمنح السلطات الوطنية والهيئات الدولية القدرة على ضبط الوضع الاقتصادي في زمن الأزمات عبر دعم الإنفاق العام. (م). (رغم أن بيرون استلهم سياساته من تجربة روزفلت!)؟ إذا كان الفساد والزبائنية السياسية سمات شعبوية، فكيف يُفهم أن يُعتبر حزب بوديموس في اسبانيا شعبوياً، في حين لا يُعتبر الحزب الشعبي الحاكم كذلك، رغم كل فضائح الفساد التي في سجلاته؟ من المألوف أن تُعتبر الأرجنتين وفنزويلا نماذجاً متطرّفة في شعبويتها، لكن لو قارنا أنماط الممارسة السياسية والطقوس المؤسساتية فسنجد أن الأرجنتين تتشابه مع نموذج «الجبهة الموسّعة» في الأوروغواي أكثر من شبهها بالنموذج الفنزويلي، لكننا لن نسمع أن الأوروغواي تشكّل جزءاً من «التهديد الشعبوي» للديمقراطية. هل لهذا الأمر علاقة بكونها ما زالت تحتفظ بعلاقات مميزة مع الولايات المتحدة؟

لقد صار مفهوم «الشعبوية» عبارة عن أداة عراكٍ خطابي شديدة الأدلجة، ولم يعد لهذا المصطلح أهمية لفهم الوقائع التي نعيشها -هذا على فرض أنه امتلك هذه الأهمية في يومٍ من الأيام-. ففي استخداماته الحالية، قد يشير المصطلح إلى تنويعة كبيرة من الحركات السياسيّة، أو أنماط متباينة من النظم السياسيّة، أو أشكال لممارسة الحكم، أو نماذج اقتصاديّة، أو ببساطة مجرّد مظاهر مُوظّفة في الممارسة السياسية. ونجد كل ذلك مخلوطاً، ودون أي شكل من أشكال الوضوح التحليلي.

يعمل مفهوم «الشعبوية» كأداة انتقاص، كما أسلفنا، إذ ليست له وظيفة تُذكر خارج الطعن بمن يُشار إليه كشعبوي، لكن هناك نقطة أهم: يفترض أن المصطلحات ذات الوظيفة التصنيفية تصلح لجمع ظواهر اجتماعية متشابهة بقصد تسهيل فهمها، وليس هناك ما هو مسيء في ذلك، بل على العكس تماماً. لكن يُشترط في هذه الوظيفة التصنيفية أن تجمع الظواهر الاجتماعية وفق تشابهاتها الذاتية، وهذه ليست حالة «الشعبوية» على الإطلاق، بل أن مصطلح الشعبوية يتصرّف بشكل مناقض بالكامل لأسس الوظيفة التصنيفيّة، فالجامع الوحيد بين ظواهر اجتماعية مختلفة فيما بينها ومصنّفة كشعبوية ليس سمة ذاتية موجودة فيها، بل أن المشترك هو -بالتحديد- ما يغيب عن ذواتها. الظواهر «الشعبوية» تتشابه فقط في أنها لا تندرج (لأسباب شديدة الاختلاف فيما بينها، أيضاً) ضمن أنواع الحركات والأنماط السياسية المُعترف بها ضمن الحقل الليبرالي الغربي. ففي النقاش المُعاصر، لا تعني «الشعبوية» ما هو أكثر من التعاطف مع الطبقات الاجتماعية الأدنى، أكان هذا التعاطف عبر سياسات محددة أو عبر انحياز خطابي، أو اتخاذ سياسات غير ودّية تجاه النخب السياسية والاقتصادية والثقافية.

لنفترض للحظة أن إعلان الانحياز للطبقات الاجتماعية الأدنى يشكّل فعلاً انحرافاً عن مبادئ الديمقراطيات «العادية»، تلك التي يُفترض أنها تعمل عبر السماح للتعددية بأن توفّر مساحة تفاوض ومساومة بين المصالح الاجتماعية المختلفة، دون انحياز مبدئي نحو أيّ منها، ولنفترض أن هذا الانحراف هو من الأهمية والخطورة بحيث يقتضي خلق تصنيف مفاهيمي خاص، «الشعبوية»، خارج الحقل الديمقراطي «العادي». ألا يفترض إذاً أن يكون هناك، بالتوازي، تصنيف مفاهيمي خاص للظاهرة المعاكسة؟ أي لإظهار الانحياز لمصالح الطبقات العليا بطريقة تؤدي لاستياء الطبقات الأدنى؟ كيف يمكن القبول باعتبار هذا الانحياز نحو «الأعلى» مجرّد تنويعة من تنويعات التعبير الديمقراطي، لا تحتاج لتصنيف خاص يفيد للتنبيه من مخاطره؟ إن غياب هذا المصطلح المناقض للشعبوية ليس إلا دليلاً على الادّعاءات المتحاملة التي يفيض بها مصطلح «الشعبويّة».

ما أودّ الوصول إليه، باختصار، هو أن «الشعبوية» لا تعني شيئاً، وأنه ليس هناك «تهديد شعبوي» لديمقراطياتنا. فعلياً، ليس هناك خطر واحد محدق بالديمقراطيّة، بل أننا نواجه أخطاراً عديدة، وليس هناك نموذج وحيد للديمقراطيّة، بل هناك نماذج عديدة ممكنة. «الشعبوية» تدفعنا نحو تبسيط المشهد المعقّد، ذي الاحتمالات المتعددة والأخطار الكثيرة، واختزاله في صورة سهلة، فيها حقلان متمايزان وواضحان: الديمقراطيات الليبرالية من جهة (أي النماذج الوحيدة التي تستحق أن توصف بأنها ديمقراطيات حقيقية)، وأشباح لا معالم واضحة فيها عدا أنها غير متلائمة مع فكرة الديمقراطية، وبالتالي يجب أن تُرفض بالكامل. بقولٍ آخر، تدفعنا «الشعبوية» نحو رصّ الصفوف حول الديمقراطية الليبراليّة (أي الديمقراطية الراسخة الحدود، كما يفضّلها الليبراليون) من أجل محاربة وحش واحد، مكوّن من جميع ما عدا ذلك، وحش يتعايش في جسمه النازيون الجدد والكينيزيّون والزعماء السلطويون في أميركا اللاتينية والاشتراكيون والغوغائيون والدجّالون ومناهضو الرأسمالية والفاسدون والقوميون، وكل الأنماط «المشبوهة» الأخرى. المشكلة الأساسية في هذا المنطق تكمن في كونه يمنع ملاحظة أمرين أساسيين: الأول هو وجود عناصر تشكّل خطراً فعلياً وحقيقياً على الديمقراطية ضمن هذه «الكتلة الشعبوية»، ولكن أيضاً وجود أفكار وتجارب وتنظيمات سياسية تحمل كموناً إيجابياً يمكن أن يُساهم في طرح صيغ أفضل وأكثر فاعلية للحياة الديمقراطية في المجتمعات المعاصرة؛ والثاني هو أن الليبرالية، بقيمها الفردانية وأخلاقها الإنتاجويّة والتزامها الثابت مع مصالح الفعاليات الاقتصاديّة الأقوى هي، فعلياً، إحدى أكبر المخاطر التي تواجهها الديمقراطيات في الوقت الحالي.

إيثيكييل آدموفسكي

أستاذ في كلّية الفلسفة في جامعة بوينوس آيرس، وباحث في المجلس الوطني للأبحاث العلمية والتقنية في الأرجنتين.

هوامش [ + ]

1.نُشر المقال في مجلّة آنفيبيا، الصادرة عن جامعة سان مارتين الوطنيّة.
2.People’s Party
3.نسبةً لخوان دومينغو بيرون، رئيس الأرجنتين بين عامي 1946 و 1955؛ و1973 و 1974. وهو السياسي الأرجنتيني الأهم في التاريخ المعاصر للبلد. للاطلاع على المزيد من المواد عن تاريخ الأرجنتين المُعاصر: «ذاكرة الجماجم»، الجمهورية (تشرين الثاني 2014)؛ «أمهات ساحة مايو»، الجمهورية (كانون الثاني 2015)؛ «يهود الأرجنتين: الوجود والازدهار والعاصفة»، الجمهورية (حزيران 2015)؛ «نيسمان: اللغز الصارخ»، الجمهورية (آب 2015). (المترجم).
4.نسبةً لغيتوليو فارغاس، رئيس البرازيل بين عامي 1930 و1945؛ و1950 و1954 (م).
5.نسبةً للاثارو كارديناس ديل ريّو، رئيس المكسيك بين عامي 1934 و 1940 (م).
6.إرنستو لاكلاو (1935-2014): فيلسوف ومنظّر سياسي وكاتب أرجنتيني ما بعد-ماركسي، عمل في التدريس في جامعة إيسيكس البريطانيّة. من مؤلفاته الهيمنة والاستراتيجيا الاشتراكية (بالتشارك مع شانتال موف)؛ و عن المنطق الشعبوي. (م).
7.نسبةً لنستور كيرتشنر، رئيس الأرجنتين بين عامي 2003 و 2007؛ وزوجته ماريا كريستينا فرنانديث، التي خلفته في الرئاسة بين عامي 2007 و 2015، وفي زعامة الحركة السياسية التي تشكّلت حول نهجه السياسي- الاقتصادي. (م).
8.الكينيزيّة هي التوجهات التي صاغها الاقتصادي البريطاني جون مينارد كينيز (1883-1946)، والتي تدعو لمنح السلطات الوطنية والهيئات الدولية القدرة على ضبط الوضع الاقتصادي في زمن الأزمات عبر دعم الإنفاق العام. (م).
المصدر : الجمهورية