ما الديمقراطية؟


علاء الدين الخطيب

أشرت في مقالي السابق (الدولة الديمقراطية العلمانية ضرورة وليست خيارًا) (1) إلى أن الواقع الدولي يؤكد -إحصائيًا- أن الدول القوية المستقرة نسبيًا، والمؤهلة لمزيد من التقدم، هي الدول التي تتبنى النظام الديمقراطي العلماني فحسب، مهما اختلفت المقارنات النسبية بينها. في هذا المقال، وهو الجزء الثالث من سلسلة “شكل سورية المستقبلي هو بداية الحل”(2)، وقبل المتابعة في النقاش، لا بد من إيراد تعريف مبسط للديمقراطية والعلمانية المقصودة ضمن هذه السلسلة، سنكتفي -في هذا المقال- بإيراد تعريف وشرح مبسط للديمقراطية، على أن يليه مقال خاص بالعلمانية.

ما الديمقراطية؟

للديمقراطية تعريفات، ومفهوم عام سائد، لكن لا بد من إعادة صياغته  صياغة واضحة محددة وبسيطة، ولن نتطرق -هنا- للتعريفات الأكاديمية، وخلافاتها التنظيرية الكثيرة، بقدر ما يهمنا الوصول إلى فهم عام في متناول الإنسان العادي، فلا يثير حفيظة الأكاديمي، ويخدم النقاش حول شكل الدولة الحديثة.

يمكن تعريف الديمقراطية وفق ثلاثة مكونات مترابطة: أولها، أن الديمقراطية ثقافة وقناعة، قبل أن تكون قوانين وممارسة؛ فهي الإيمان بحق الإنسان في اتخاذ قراراته الشخصية، بما لا يتعارض مع النظام والقانون الحاكم للمجتمع، ولا يلغي أيضًا حق الأفراد حوله في اتخاذ قراراتهم الشخصية؛ وعلى المستوى المجتمعي، هي الإيمان بحق الإنسان/ المواطن في المشاركة باتخاذ القرارات على مستوى المجتمع والمؤسسة، من خلال الانتخاب والتصويت، وبما لا يتعارض مع الأسس الدستورية العليا. في المُكوّن الثاني، تصبح الديمقراطية ممارسة يومية من خلال النقاش مع الآخرين، اعتمادًا على حق الآخر في التعبير عن رأيه، ومن خلال الممارسة الشخصية والمهنية. أما المُكوّن الثالث، فمن خلاله تُمارس الديمقراطية بآليات التصويت والاقتراع، وهو المكون الأكثر شهرة للديمقراطية. ضمن هذا التعريف قد يظهر بعض التداخل مع مفهوم الحرية، وهذا حتمي؛ لأن الديمقراطية هي الإطار المحدد للحرية.

من المهم تخليص الديمقراطية من مفهوم عام سائد؛ حتى لو أيده كثير من المنظرين، بأنها عملية التصويت والانتخاب وحسب، فثقافة الديمقراطية أهم من صناديق الانتخاب، مثلما أن إتقان قيادة السيارة ومعرفة قوانين المرور أهم من رخصة القيادة، فمن الممكن -بطرق ملتوية- الحصول على رخصة القيادة، دون معرفة بإشارات المرور، كذلك يمكن أن تجري عملية انتخاب، لكنها ليست بالضرورة ديمقراطية، كأن يُخدع الرأي العام، أو أن تُجرى عملية التصويت تحت ضغط الخوف من عدو أو خطر وهمي؛ مثلما حصل في مصر -بعد ثورة عام 2011- حين “خُدع” الرأي العام بشعار “الإسلام هو الحل”، أو كما استُغلت مشاعر الخوف من القاعدة في الانتخابات الأميركية عام 2004، وبالتالي؛ انتُخب جورج بوش.

شرط تحقيق الديمقراطية شفافية المعرفة والمعلومات، هذا الشرط يرتقي بالديمقراطية؛ لتكون ممارسة ضامنة للمصلحة العامة والفردية، وهو شرط نسبي التحقق، وبعيد عن الكمال في واقعنا البشري؛ فوجود حرية الاختيار بين المتاح أمام الإنسان، لا يعني -بالضرورة- أن الاختيار صحيح، إلا إذا علم الإنسان ما يكفي عن هذه الخيارات؛ ففي مثالينا السابقين، الناس حرة في أن تختار، لكنها مرة تعرضت للخداع بابتزاز العاطفة الدينية، ومرة بابتزاز مشاعر الخوف الطبيعية غير الواعية.

تبدأ الديمقراطية عند علاقة الفرد بعائلته وشريكه وأصدقائه وزملائه، وتنتهي بانتخاب الحاكم والمجلس النيابي أو المجلس الإداري، فلكي تثمر الديمقراطية في مجتمع ما، يجب أن تسود قناعات أساسية بسيادة “كل” مبادئ حقوق الإنسان، كما صاغتها الشرعة الدولية، هذا التكامل في ثقافة وممارسة الديمقراطية هو الذي يحمي الديمقراطية، وبالتالي؛ مؤسسة الدولة، ويحمي المجتمع من الانزلاق إلى الفوضى، ومن التحول إلى مجموعة قطيعية سهلة الانسياق خلف الصراع السياسي على السلطة.

خطر ديكتاتورية الأكثرية

المفهوم الشائع للديمقراطية هو، أن القرار النهائي هو قرار الأكثرية، وهذا صحيح بالمعنى النسبي، لكن ليس بالمعنى المطلق، كي لا تقع الديمقراطية في فخ ديكتاتورية الأكثرية؛ فليس أي قرار تتوافق عليه الأكثرية يسير بالضرورة لمصلحة المجتمع الإنساني، ويحافظ على حقوق الإنسان الأساسية. المعيار الحكم بين الديمقراطية وديكتاتورية الأكثرية هو حقوق الإنسان والعدل، فلا يحق للأكثرية اتخاذ قرار يناقض حقوق الإنسان، أو يظلم أفرادا أو جماعات. فلنأخذ مثالين لتوضيح الفكرة: الأول من الدول الغربية الديمقراطية، فلو طُرح -مثلًا- قانون يخفض -إلى حد كبير- أو يلغي الضرائب العائدة للضمان الاجتماعي، سيكون من المحتمل أن تصوت الأكثرية لصالحه؛ لأن الأكثرية تعمل وتنتج وتعيش حياتها دون الحاجة إلى الاستفادة من هذا الضمان، فلو حصل ذلك، ستفقد أقلية من المجتمع، لا تتجاوز الـ 15 بالمئة في هذه المجتمعات، حقها الإنساني الأساسي في المسكن والمأكل والرعاية الصحية، أي: حقها في الحياة الإنسانية الكريمة بحدها الأدنى، لذلك؛ لا يمكن لنظام الضمان الاجتماعي أن يكون قابلًا للتصويت بهذه الطريقة؛ المثال الثاني من مجتمعاتنا، ولنتكلم عن سورية، فلو افترضنا أننا طرحنا قانونًا ينص على أن المناصب السيادية في الدولة والجيش يجب أن تكون فقط من حق الأكثرية العربية المسلمة، عندها قد يكون من المحتمل أن تصوت الغالبية لصالح ذلك القانون، لكن هذا القانون سيتعارض مع حق الإنسان المتعلق بعدالة الفرص، وسيتعارض مع مفهوم المواطنة؛ أو إذا صوتت الغالبية المسلمة على فرض حدود معينة للباس، وخاصة لباس المرآة، عندها سيكون ذلك مناقضًا لحق الإنسان في  بحرية السلوك الشخصي.

إذن، الديمقراطية تقوم على حامل أساسي هو ثقافة وقيم الديمقراطية الأساسية، وتُنفذ عبر آليات التصويت من كل مكونات المجتمع، من الأسرة؛ وصولًا إلى الدولة؛ هذا النظام بحاجة إلى مؤسسات وقوانين تحميه وتراقبه وتعمل على تطويره، ومهمة الدولة، بوصفها مؤسسة حاضنة لكل مؤسسات المجتمع، حماية الديمقراطية، وليس حكم المجتمع.

هل نحن مؤهلون للديمقراطية؟

يُقال كثيرًا أن شعوبنا ليست مؤهلة للديمقراطية، وتأتي هذه المقولة -غالبًا- بالمقارنة مع المجتمعات الديمقراطية الغربية؛ نقد هذه المقولة يحتاج لبحوث مطوّلة، لكن يمكننا اختصار نقد هذه المقولة ببضع نقاط أساسية:

أولًا، الديمقراطية هي حاجة طبيعية إنسانية، ناتجة عن حاجة الإنسان الطبيعية للحرية، فكما أسلفنا، الديمقراطية هي الإطار المحدد للحرية ولازم أساسي لها.

ثانيًا، الإنسان لا يولد مؤمنًا بالديمقراطية والتعاون الاجتماعي، إنها خبرات يكتسبها الإنسان في أثناء نموه ضمن بيئته الاجتماعية، فالشعوب الغربية لم تولد محترفة للديمقراطية، بل تعلمتها ضمن مؤسسات المجتمع.

ثالثًا، من الثابت أن الشعوب الغربية احتاجت لنحو قرنين من الزمن، مليئين بالمآسي والدماء، للوصول إلى هذه المرحلة المتقدمة في ممارسة الديمقراطية، لكن هذه التجربة التاريخية ليست قدرًا حتميًا على أي شعب يريد الوصول للديمقراطية، لسبب أساس واضح، لكنه مُستبعد ضمن الفكر العربي، هو أن آليات التواصل بين البشر في القرن 18 لا يمكن مقارنتها بعالمنا الحالي، وقد حولته شبكات الاتصال إلى قرية صغيرة(1)؛ كما أن هناك براهين واضحة من تجارب شعوب أخرى تعلمت الديمقراطية من التجربة الغربية، دون الحاجة إلى المرور ضمن طريق الآلام الغربي نفسه، مثل اليابان وكوريا الجنوبية وفيتنام وماليزيا وغيرها، وبعضهم يتعلم الآن تعلمًا أسرع، مثل شعوب الاتحاد السوفياتي السابق والصين. طبعًا، قد لا توافق هذه المقارنات بعض المصابين بعصاب احتقار الذات في هذه المنطقة، ممن يسِمون شعوبنا بالحالة الأسوأ، عقليًا وثقافيًا، لكن ليس هذا مجال نقاشنا اليوم.

رابعًا، لقد أثبتت الهجرات الكبيرة لأبناء هذه المنطقة إلى الغرب، أن تكيفهم مع النظام الديمقراطي، وتقبلهم وممارستهم له، عملية ممكنة وسريعة إذا ما توافرت البنية الصحيحة للنظام الديمقراطي.

الخاتمة

ما سبق يؤكد أن الديمقراطية هي ضامن نشوء الدولة السورية الوطنية واستمرارها، ويضاف إلى ذلك، أن الثورة السورية -عام 2011- كانت التعبير الأقوى عن الحاجة المترسخة في المجتمع السوري؛ طلبًا للديمقراطية؛ وعلى الرغم من أن هذه الثورة قد قمعها النظام الأسدي وحلفاؤه، وجرت عملية “سرقة” منظمة لها من قادات الفصائل الإسلامية الجهادية تحت راية السنة، وشتت الطرفان السابقان -معًا- الشعب السوري عاطفيًا؛ خدمة للصراع الدولي فوق سورية، إلا أن مجرد انبعاثها يؤكد حقيقة أن الديمقراطية هي الوسيلة الوحيدة لإنقاذ الشعب والدولة السورية؛ فمن المستحيل أن يتقبل السوريون نظامًا ديكتاتوريًا عسكريًا مخابراتيًا مثل نظام الأسد، ولا نظامًا ديكتاتوريًا إسلاميًا مثلما يطرح الإسلام السياسي في غالبيته، ولا حتى نظامًا ديكتاتوريًا علمانيًا(3)؛ إن الديمقراطية في سورية متوازية مع العلمانية هي الشكل الوحيد الممكن للدولة السورية.

المراجع

1 – مقال منشور على شبكة (جيرون) “الدولة الديمقراطية العلمانية ضرورة وليست خيارًا”

2 – مقال منشور على شبكة (جيرون) “شكل سورية المقبل هو بداية الحل”

3 – دراسة منشورة على موقع مركز (حرمون) للدراسات “هل سورية بين خيارين فقط: النظام أو الإسلاميون؟”




المصدر