الأسد.. وانقلابه


عقاب يحيى

تمرّ الذكرى السادسة والأربعون لانقلاب حافظ الأسد، وسورية -كما تنبأ عبد الكريم الجندي- يجري تدميرها الشامل، في حين أن تدمير الحزب [حزب البعث] قد أُنجز منذ عقود؛ ففي 16 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1970 دشّن الأسد انقلابه “الأبيض” بشعار “الحركة التصحيحية” فور انتهاء أعمال المؤتمر القومي العاشر الاستثنائي لحزب البعث “الحاكم” والذي اتخذ قرارًا بفصله، وفصل رئيس الأركان مصطفى طلاس، إثر أزمة داخلية لم تجد مخرجها سوى أن يدوس الأسد على أعلى سلطة في الحزب، وانتهاك شرعيتها، وقراراتها بانقلابه ذاك.. مثبتًا، كما رسّخت عقود حكمه، أنه لا يؤمن بحزب، ولا بشيء سوى ذاته ونهمه للسلطة.

أسئلة عديدة، متنوّعة طرحت نفسها حول شخصية الأسد، وخلفياته، وقد انتشر عدد منها بعد هزيمة حزيران/ يونيو، ودوره فيها، ومن أهمها:

– هل كان الأسد عميلًا مرتبطًا بدوائر خارجية، ينفذ ما يُطلب منه؟

– أم هو جزء من مشروع طائفي؟

– أم أنه ابن مؤسسة عسكرية، اعتادت التدخل في الحكم، والقيام بانقلابات متعددة الأهداف؟

– أم أنه حامل لمشروع خاص، ببصمة ذاتية؟

كثيرون يعدون الأسد خليطة تتمازج فيها تشابكات معقّدة، بما فيها تهمٌ راجت عن علاقاته بالاستخبارات البريطانية، وقد غذى ذلك شهادة عدد من الضباط الذي رافقوه الرحلة إلى بريطانيا عام 1964، وغيابه عن الوفد لمدة 48 ساعة، قيل إنه التقى مع مسؤول المخابرات البريطانية، ثم مسار ونتائج هزيمة حزيران، بدءًا من الاختراق في القطاع الشمالي، وبيان احتلال القنيطرة 66، قبل احتلالها، وقرار “الانسحاب الكيفي”، فحماية الضباط الهاربين والمتخاذلين، وفي الوصية الشهيرة لعبد الكريم الجندي، رئيس مكتب الأمن القومي”  قبيل انتحاره، أو مقتله، 2 آذار/ مارس 1969، يرد اتهام مباشر لحافظ الأسد، حين يقول: “إن رفيقنا حافظ الأسد مرتبط، وعميل ومشبوه، سيدمر نفسه والحزب والبلد”..

ويختلف كثيرون حول طبيعة الأسد والنظام الذي أقامه، هل كان الأسد طائفيًا في تركيبه؟ أم أنه استخدم الطائفة العلوية كقاعدة ارتكاز؟ وهل جرى ذلك في سياق تطور طبيعي للوضع السوري، وخاصة بعد انقلاب آذار/ مارس 1963؟ أم أنه جزء من مشروع مرتّب، نجح في التغلغل داخل البعث والسلطة، ثم السيطرة الكاملة عليه، من خلال الإمساك بمفاصل الجيش والأمن؟ والعمل الممنهج على ترسيخ موضعة طائفية، وبالتالي؛ هل هو نظام طائفي وحسب؟

بعض من عرف الأسد عن قرب، وعبر انكشاف نياته، وهو حاكم مطلق، يجزم بأنه كان باطنيًا يعدّ نفسه منذ وقت طويل؛ ليصبح حاكمًا مطلقًا، وأنه -في سبيل ذلك- كان يتصنّع الدروشة والبساطة؛ وحتى السذاجة، والالتزام بالمبادئ، في الوقت الذي لم يكن فيه بعيدًا عن الصراعات الداخلية، وبعض المحاولات الانقلابية، قبل وبعيد حركة 23 شباط/ فبراير 1966، وأنه تحقيقًا لذلك؛ كان مستعدًا للعب على جميع الحبال، وجمع المتناقضات، والمقايضة بالقضايا كافة، مقابل البقاء في السلطة وحماية موقعه.

بغض النظر عن دقة المعلومات وغائيتها، حول الارتباط بدوائر خارجية، ومدى صدقيتها، أو زيفيها، وموقع الطائفية في تركيبة الأسد ونظامه، وحقيقة وجود مشروع طائفي من عدمه، فالأمور بنتائجها، والنظم تقيّم بنتائج ما تفعل.

وتأسيسًا على ذلك؛ فالأسد بسيطرته المطلقة على الحكم، واستبداده المكين، وتحويل الدولة إلى تابع للنظام، خرّب ودمرّ سورية، وطال إجرامه دول المحيط العربي، وقضية العرب الأولى فلسطين، ولبنان والعراق.

لقد انقضّ على أهم خاصية في الشعب السوري، وهي الاهتمام بالشأن العام وبقضايا الوطن والأمة، وإعدام الحريات العامة والفردية بأبسط مدلولاتها، ومحاولة إخضاع الشعب السوري وتكييفه وفق منظومة من السياسات والممارسات؛ لتحويله إلى رعية منزوعة الإرادة، تابعة ومصفقة، فضلًا عن الضربات الساحقة التي وجهها لقوى المعارضة بشتى أطيافها، وإقامة مملكة خاصة به، ترتكز على الأجهزة الأمنية والرهاب والتخويف، وصولًا إلى فرض التوريث بكل معانيه ودلالاته، وتحويل سورية إلى ملكية خاصة.

لقد كان التوريث نقلة مهمة في توجيه طعنة كبيرة لأسس الجمهورية، وتدشين حالة استبدادية عربية مرسّمة، وقد حاول الوريث، للتغطية على تلك العملية، بثّ مزيد من وعود الإصلاح والانفتاح، في “خطاب القسم” الذي تبيّن أنه كان مجرد حالة تمرير وامتصاص، سرعان ما أفصح الوريث عن جوهره، ابنًا شرعيًا لانقلاب “التصحيح”.

مرة أخرى تثبت الوقائع أن ما جاء في وصية عبد الكريم الجندي يتجسّد في عموم الميادين، فسورية تدمر، والنظام أثبت -منذ انطلاق الثورة السورية- أنه عصي على الإصلاح، وعلى القيام بإجراءات ضرورية، تستجيب لمطالب الشعب السلمية طوال الأشهر الأولى للثورة، وأن نهجه الأمني، العنفي، واحتقاره للشعب، هو الأساس. أكثر من ذلك؛ أكّدت الوقائع الدامية أن هذا النظام مستعد لاستقدام المليشيات الطائفية، والدول الأخرى الأجنبية؛ كي يبقى حاكمًا، ولو على تلال من الجماجم، ولو تمزقت البلاد، ولو بقي حاكمًا على جزء منها.




المصدر