حكاية الشتاء


“تظن أنك في مأمن من هذه الأحداث وأنها لن تنالك، وأنك الشخص الوحيد في هذا العالم الذي هو بمنأى عنها، لكن لا بد أن يحين وقت خيبة الظن فتراها تصيبك كالآخرين تمامًا”. هكذا يبدأ بول أوستر روايته الآسرة “حكاية الشتاء”، وبالعبارة التالية ينهيها: أصبحت في شتاء العمر، كم صباحًا تبقى من عمرك”.

على مدى 300 صفحة يحكي بول أوستر سيرته الذاتية لكن بطريقة مُبتكرة وعميقة جدًا، ويصح أن أقول بأنه يحكي عن الإنسان وعلاقته بجسده والعالم والناس حوله، يشعر كل قارئ أن بول أوستر يغوص في أعماقه ويتحدث عنه، لأنه لا يحكي عن ذاته بخصوصية بل من خلال كينونته كإنسان، ولا يحكي عن جسده كجسد يخصه بل يحكي عن الجسد الإنساني وميزاته في مراحل عمرية مختلفة : “إن جسدك طالما علم ما يجهله عقلك، والجسد يتحمل العبء الأكبر من مخاوفك، ومعاركك الداخلية مُتلقيًا الضربات التي لا يقوى ولن يقوى عقلك على مواجهتها”.
يحكي أوستر عن ميزات الجسد حسب العمر عن طريق استحضار ونبش ذكرياته ويشعر كل من يقرأها أنه يتحدث عنه، فيتذكر حين كان في العشرينات من عمره مسافرًا في الطائرة وجلست بجانبه شابة جميلة، ووجدا نفسيهما بحالة انجذاب قوي وبدأا بالغزل وتبادل قُبل نهمة، فالهورمونات الجنسية في عمر العشرين تكون قوية وجارفة ولا تبالي بتحذيرات العقل. ويحضرني هنا عبارة لسمرست موم في كتابه “عصارة الأيام” حين عرف الحب بأنه مستوى الهورمونات في الدم.

زوجة بول أوستر كاتبة أيضًا، ودام زواجهما ثلاثين عامًا، وأهم ما تميزت به علاقتهما الزوجية أنهما كانا على تواصل فكري دائم ولم ينقطع الكلام بينهما. ويمران بمراحل من الضيق المادي الشديد، ويتنقلان بين ولايات كثيرة في أميركا، ويعترف أنه مرّ بأربعين ولاية أميركية من أصل خمسين، ويعاني صراعات المبدع ولطالما شعر أن حقيقة وجوده أفلتت منه، وبأنه يسكن العدم، ويطرح سؤالاً يبدو بديهيًا: “تود أن تعرف من تكون” – في الرواية يستعمل بول أوستر أسلوب استنساخ صديق من نفسه ويحاوره – والجواب حسب رأيه : “بأنك نتاج هجرات جماعية أزلية هائلة العدد قائمة على الغزوات وأعمال الاغتصاب والخطف، قبائل بشرية ارتحلت في أنحاء الأرض على مدى عشرات آلاف السنين، خليط من حضارات مُتصارعة في جسد واحد”.

ثمة ومضات في الحياة يشعر فيها الإنسان أنه على وشك اختراق حقيقة ما، ويعترف أوستر أنه في عمر 63 كان يشعر بنشاط وحيوية أكثر من عمر 55 سنة، لأنه في عمر 55 كان يعاني من نوبات ذعر وفزع التي ترافقت مع تجرع كأس الفشل حتى النهاية ثم تلاشت هذه النوبات.

يعتبر أوستر أن مرشده وأستاذه هو إدوارد سعيد وهو يحترمه ويبجله كثيرًا، وقد تأثر بتفكيره، أما الكتاب الذي رماه في القمامة فهو كتاب “بروتوكولات زعماء صهيون” ويعتبره أبغض دفاع مؤثر عن معاداة السامية.

يفصل أوستر بين الجسد والروح ويتحدث عن الجسد ككيان مستقل في كثير من الأحيان، يحكي عن اليد ككائن مستقل، فاليد التي تبدع وتكتب الروائع هي اليد التي تحك الجلد وتضرب وتقوم بأعمال مشينة. يحكي عن الضربات والجروح التي تعرض لها جسده، وعن أنواع الألم التي خبرها، يبدو الجسد كائنًا موازيًا للروح عند بول أوستر وليس ملاصقًا له، لأنه يؤمن أن للجسد متطلبات خاصة حسب العمر. يتحدث عن حياته العائلية والأسرية بدون انفعال، فيخبرنا بدون أي تعليق ومن دون أن يظهر مشاعره أن جدته قتلت جده في عام 1919، وبأن أمه طلقت والده لأنها لم تكن سعيدة معه وبأنه فرح لهذا الطلاق، وتزوجت رجلاً أحبته كثيرًا وكانت سعيدة معه لكنه مات بعد أربع سنوات من الزواج بالسكته القلبية، فأصبحت أمه تتنقل بعلاقات جنسية من رجل إلى آخر. لا يطلق أوستر أيه أحكام على سلوك أمه، ويحزن جدًا حين تموت لكنه يعجز عن البكاء، لا يستطيع البكاء، ولا يعرف أن يحزن كبقية الناس بل تمر بذهنه خاطرة ترعبه وتثير فيه الذعر وهي أنه مُبتهج لوفاة أمه.

لا يؤمن أوستر بالكلام السطحي بل يؤمن بأن كل ما يجب أن نقوله يجب أن ينبثق من الباطن، ويؤمن أن الخوف من الموت هو نفسه الخوف من العيش. فكم من بشر يكون الموت داخلهم.

ومن أهم الصدمات التي تعرض لها أوستر حين إغتيل كينيدي، وبداية كبر الصدع بين الأثرياء والفقراء، ونمو اليمين المتطرف، وكيف بُترت حياة الناس، يتأمل بول أوستر حياة البشرية، ويؤمن أن قسمًا كبيرًا من الناس غرباء عن ذواتهم، وكيف غرقوا في الحروب وسفك الدماء وتشريع وسائل التعذيب وكيف لا ينسى عبارة جوبيرت : نهاية الحياة مريرة، فكم من أحباء وأصدقاء ماتوا، فيما هو يتقدم في العمر سنة تلو السنة، ويتذكر صديقه حين كان في الرابعة عشرة من عمره وكانا يلعبان معًا، كيف نزلت صاعقة على صديقه وقتلته، ويتساءل: “لماذا مات صديقه ولم يمت هو؟”. لكنه مع الزمن وحين يصل لعمر الحكمة يجد قناعته بأن المرء يجب أن يموت وهو محبوب، ويتساءل إلى أيه درجة يمكن للإنسان البقاء إنسانًا وهو يتخبط في العجز والإذلال، والشيخوخة بما تعني من هزيمة، لكنه وقد وصل إلى شتاء العمر يتسلى بالذكريات ويقارن لحظة الموت بلحظة الحياة، ففي اللحظة التي أتم بها كتابة روايته “فسحات بيضاء”، كان والده يموت بين ذراعي صاحبته، في كل لحظة هناك موت وحياة. إن الحياة ستبلغ نهايتها بالتأكيد، وكل إنسان يتساءل كما يتساءل بول أوستر وهو كهل: “كم صباحًا تبقى من عمرك؟”. ولكنه وفي الصفحات الأخيرة من الرواية يتحدث بأسلوب ساحر عن الكتابة ويقارنها بالرقص والمشي وبأن المشي يولد الأفكار ويستشهد بقول الفيلسوف ماندلستام: الكتابة شكل من أشكال الرقص، لكنه أدنى مرتبة منه.

“حكاية الشتاء” رواية مذهلة بعمقها إنها أشبه برؤية شاملة وبانورامية للإنسان والحياة، للجسد والروح، للغريزة في جموحها وانطفائها، للشيخوخة في إذلالها للإنسان. لكن أحب أن أختم بالعبارة التي وردت مرارًا في الرواية : إن الإنسان يجب أن يموت محبوبًا.



صدى الشام