مضايا جدارية الألم على ضمير العالم


مهند شحادة

“حين يصل الحصار إلى نهايته، إن كانت له نهاية أصلاً، ستشعر بالخوف الشديد، وينتابك توتر غريب، وستقول: ماذا بعد الحصار؟! كيف سأحيا بلا حصار بعد أن أدمنته؟! وستكتب على جدار بيتك: لا أرى حياتي خارج حدود الحصار، ولا أرى نهاية للحصار خارج حدود موتي”، تلك الكلمات هي صوت أحد المحاصرين في جنوب العاصمة السورية دمشق، وقد تصلح سرديةً جاهزة لمن يرغب بربح إنجازٍ لغوي، يرسخ طويلًا في وجدان الإنسانية، أو أولئك الذين عايشوا الألم ذاته على الأقل، تضمحلّ المصطلحات اللغوية -اليوم- في محاولتها التقاط أو توثيق إيقاع الحياة في تفاصيل البشر القابعين داخل حدود الحصار المطبق، في دمشق وما حولها.

ليس بعيدً عن جنوب دمشق، وتحديدًا في مضايا، رسم الحصار ملامح روايةٍ بشرية، فيها ما يكفي من علامات فارقة، تؤرخ بوجع صارخ لمدى التصحر الذي أصاب وجدان البشرية، والعطب في ضميرها، هناك حيث الجميع يسأل كيف يعيش المجردون مما يمكنه إيقاف نزيف الأمعاء الخاوية إلى حين؟ أو يؤجل وفاة طفلٍ جوعًا على صدر أمه لنهارٍ آخر فحسب؟، عندما سألناها، قالت الناشطة منتهى عبد الرحمن لـ (جيرون): “نحن لا نفعل شيئًا سوى أن نحاول مقاومة الألم”.

خارج اليأس لا شيء ينمو في الحصار

يحاول كثيرون، ممن هم خارج حدود الحصار، ترصيع التجربة بما يكفي من نجوم الأمل، وقدرة الضحية على مقاومة الموت الجاثم على حياتها من كل حدب، إلا أن أصحاب التجربة أو من عايشوها، لم يُجهدوا أنفسهم كثيرًا في تجميل واقع ذميم، إلى ذاك الحد وفق تعبيرهم، وعدّوا أن كل تلك العبارات ما هي إلا لغة معلبة، يحاول أصحابها مداراة وفاة إنسانيتهم خلفها، في هذا الجانب، قالت عبد الرحمن: “داخل الحصار لا شيء ينمو سوى التعب والقهر، الأمل يتضاءل كثيرًا، الأحلام هنا تتلاشى، وسأروي حادثتين: الأولى رواها لي أحد الشبان الخارجين من مضايا لبعض الوقت؛ من أجل امتحانات الثانوية، عندما عاد، حدثني وهو يبكي، عن أنه شاهد الحياة خارج الحصار، شاهد سيارة بأربع عجلات تمشي على الطرقات، الحادثة الأخرى، كانت لطالبة وأخبرتني أنها وزميلتها تم استضافتهما في أحد بيوت العاصمة، وقت النوم دخلت الفتاتان وأرادتا تغيير ملابسهما، لتفاجئهما صاحبة المنزل بسؤال، لماذا لا تشعلون النور؟، ارتبكت الفتاتان، وقالت لي أحداهما: نسينا أن هناك شيئًا من الممكن أن يضيء”.

وأضافت عبد الرحمن: “هل أتحدث عن الأمهات، وهن يراقبن أطفالهن يرحلون، لن ينمو بداخلهن سوى الألم، والحقد، حتى أطفالنا ينمو بداخلهم الحقد على هذا العالم؛ لأنهم مسكونون بالقهر”.

بدوره، قال محمد درويش، الطبيب في النقطة الطبية داخل مضايا لـ (جيرون): “ما الذي يمكن أن ينمو في الحصار، لا اعتقد أنه توجد بيئة ملائمة لنمو أي فكرة أو ثقافة أو فسحة جمالية، باستثناء (عبقرية المحاصرين) التي تولد في المأساة، فعلى سبيل المثال؛ ابتدع الأهالي طريقة فريدة لطهي الطعام، لا أظن أن أحدًا في العالم خطرت في باله، ببساطة، اعتمدت تلك الطريقة على صحون الستلايت، بعد أن تُرصف بزجاج المرايا المنزلية؛ ما يُوّلد سطحًا جاذبًا لأشعة الشمس صيفًا، وتتركز الحرارة في نقطة واحدة، فيطهون طعامهم، وهذه براءة اختراع مسجلة باسم المحاصرين هنا في مضايا، ما عدا ذلك لا شيء ينمو في هذا الحصار، هنا لن ترى بشرًا، بل ترى قطعًا من الجليد، أو مجرد أشباح تمشي من حولك”.

الحصار أسوأ تجربة إنسانية

أكد درويش أن عدّ الحصار أسوأ تجربة إنسانية، هو أقل ما يمكن أن يُقال، فلا شيء يضاهي الحصار بقسوته وتداعياته، مشيرًا إلى أن المحاصرين كثيرًا ما تضرعوا إلى الله؛ كي يعود القصف والبراميل عل وحش الجوع يرحل أو تتوقف الحياة، وقال: “عندما قال محمود درويش: نفعل ما يفعل العاطلون عن العمل نربي الأمل، ربما كان له معطياته المنطقية لصياغة تلك العبارة، ولكنني لا أعتقد أنها دقيقة، طبقًا للواقع الذي نعيش، نحن في مرحلة لا نفعل شيئًا سوى انتظار الموت، والأكثر إيلامًا أنه حتى الموت لا يأتي، وتبقى على قيد الحياة، لا لشيء إلا لتراقب أبناءك وأفراد عائلتك يسلمون الروح ببطء أمامك، دون أن تستطيع أن تحرك ساكنًا، باختصار، هنا حتى اليأس ليس باستطاعتنا تربيته، ولم نعد نقوى حتى على الألم، إن سألت أي أحد هنا سيخبرك أن الحصار والجوع هو أكثر الأسلحة فتكًا على الإطلاق”.

أما عبد الرحمن، فقالت: “الحصار هو أسوأ تجربة إنسانية بالتأكيد، بل هو كارثة إنسانية، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ببساطة، وعلى الهامش اليوم في مضايا ثمن كيس حليب الأطفال، إن وجد، يتجاوز 100 ألف ليرة سورية، نحو 16 محاولة انتحار في مضايا معظمها من نساء، كل ذلك؛ لأن الحصار دمر البشر نفسيًا، بالتال؛ي نحن اليوم في سجن كبير، ربما في المناطق الأخرى المحاصرة، قد يكون هناك مخرج ما كالأنفاق مثلًا، أما هنا؛ فبمجرد ابتعادك مسافة 100 متر عن الأبنية السكنية ستصطادك الألغام، أطفالنا كانوا يخرجون بحثًا عن الأعشاب على حواف الطرقات؛ كي يسدوا رمقهم، فسقطوا على أمنياتهم مبتوري الأطراف، دون أن يهتز وجدان العالم، لا أعتقد أنه يمكن أن نجد وصفًا دقيقًا بإمكانه التقاط ما الذي يمكن أن يفعله الحصار بالمحاصرين، ومع كل ذلك، سأقول وبكل صراحة: نحن باقون على أرضنا، وسنواصل مقاومة الألم، على الرغم من أن أطفالنا يوميًا يستقبلون كل أنواع الأسلحة بجوعهم، بأمعائهم الخاوية، بأحلامهم، وسنبقى ننتظر أملًا يعلن أننا لن نخرج من هنا؛ كي نكون لاجئين في أي بقعةٍ من بقاع هذه الأرض”.

في الحصار الرابح الوحيد هو الخذلان

لا يمكن المرور على تجربة الحصار -بغض النظر عن الجغرافيا- دون طرح تلك المقاربة بين الخذلان والأمل، وأيهما يمكن أن يخرج سالمًا في حال انتهت التجربة، وفي هذا الجانب قالت عبد الرحمن: “بكل تأكيد الخذلان هو الفائز، نحن هنا نشعر بأن الجميع خذلنا، الحصار مطبق على صدورنا، على أحلامنا، وبراءة أطفالنا، بينما الآخرون خارج (جمهوريات الحصار) يعيشون حياتهم عيشًا عاديًا، لا يمكن توصيف أو قياس مقدار الألم، النقطة الطبية في مضايا أعلنت توقفها عن العمل نهائيًا، هل سأل أحد في هذا العالم أي قهر يستعمر الطبيب الذي خرج بالإعلان؟ وهو يعترف بالعجز عن فعل أي شيء لطفل يصعد إلى السماء بأمعائه الخاوية، أو جريحًا ملقىً على مرمى نظره يصرخ من الألم، نحن نحاول ما استطعنا تربية الأمل، ونواظب على سقايته، ولكن عندما تخلوا إلى نفسك، في لحظة صدق، ستدرك حتمًا أننا ظُلمنا كثيرًا هنا، ظُلمنا أكثر مما باستطاعة أحد أن يحتمل”.

ولم يختلف درويش كثيرًا مع عبد الرحمن، فقال: “قطعًا لن يربح سوى الخذلان، الأمل لا يعيش في الحصار، والعالم ماضٍ في حياته، ما الفائدة اليوم من مخاطبة هذا العالم بمؤسساته المدنية والحقوقية، هل سيلتفت لـ (كوكب مضايا) الذي يعيش دون مياه منذ أكثر من عام ونصف، ونحن في القرن الواحد والعشرين؟ لا أظن ذلك، وكل تلك الشعارات والعبارات والأيقونات، لن تستطيع إقناع أكثر من 40 ألف محاصر -هنا- بأن الأمم المتحدة تعجز عن أن تفرض على النظام، ومن يتحالف معه، إدخال المواد الغذائية؟، وتضع حدًا لفصول هذه المأساة الإنسانية المتواصلة، كيف يمكن أن نقتنع؟، كل هذا الذي يدور الحديث حوله عن مفاهيم العدالة وحقوق البشر هو كذب، وأتمنى أن أكون مخطئًا في توصيفي، لكن كل شيءٍ الآن يقول بأن الحصار هو الحقيقة الوحيدة في حياتنا”.




المصدر