إنه ترامب… عنوان العالم الجديد
21 نوفمبر، 2016
حذام زهور عدي
قد يكون نعوم تشومسكي أفضل من حلّل وكتب حول ظاهرة المرشح والفائز بالانتخابات الرئاسية دونالد ترامب، فقد رأى أن أبرز مدلولات نجاحه تُشير إلى تفكك المجتمع الأميركي ودخوله في أزمات متعددة، أولها اقتصادية، وليس آخرها الأزمات الأخلاقية، مرورًا بتركيبة نظامه السياسي وقدرة تمثيله للشعب الأميركي، وعلى الرغم من وضوح تفسير الآلية الرأسمالية في تركّزها في أيدي قلة من أثرياء العالم، ودخولها في حالةٍ لا تستطيع حلها إلا بإشعال الحروب، إلا أنها في الوضع الأميركي سلكت طُرقًا مختلفة تتلاءم وتطور العصر، واختلاف معطياته. إنها حالة جديدة على النظرية والتنظير، لم تستشفها الدراسات الماركسية بتفصيلٍ قادرٍ على رسم الحلول لفاقدي العدالة، حيث تتمركز الكارتلات الملياردية في المجتمع الأميركي كما في المجتمعات العالمية الأخرى.
عندما بدأت الأزمة الاقتصادية الأميركية، هرب الرأسمال الأميركي إلى نظرية العولمة، لحل أزمته، واعتبرها كالأواني المستطرقة، ففي الوقت الذي تتراجع أرباحه في منطقة يهرب -باسم العولمة- إلى أخرى، تضمن له الأرباح التي يحلم بها، وهكذا رحَّل استثماراته إلى دول مختلفة أهم ميزاتها اليد العاملة الرخيصة ذات المهارة المناسبة والدولة التي تسمح قوانينها بالاستغلال شبه المطلق لهذه اليد، فكان الناتج إلقاء أعداد كبيرة من عمال المعامل الأميركية في غياهب البطالة والفقر، وكان التقدم التكنولوجي بأتمتة المعامل عاملًا مساعدًا في اتساع هذه الظاهرة.
لكنَ للعولمة وجهًا آخر، فقد هاجمت منتجاتها الرخيصة الإنتاج المحلي للدول الغنية مُخلّفة كسادًا وطنيًا في الزراعة والصناعة الخدمية والاستهلاكية، قضى على شريحة واسعة أيضًا ممن كانوا يعيشون على العمل بها، وهكذا تمركزت الأزمة الاقتصادية في عقر دار الرأسمالية، في أميركا، التي لم يستطع ممثلوها السياسيون حلّ المشكلة، فهم لا يستطيعون إلغاء العولمة لأنها ضمان أرباح أعمدة نظامهم، ولا يستطيعون المضي بها لأنها خلقت لهم أزمات جديدة لا يريدون حلّها بنوع من العدالة يُنقص أرباحهم ويُخرجهم من لعبة الإمساك بتغيرات التمثيل السياسي ونتائجه غير المضمونة بالنسبة إليهم، بل قاوموا بشدة مشروع التأمين الصحي الذي اقترحه أوباما، وواجهوه بحلولٍ تزيد الفروق الطبقية وتقذف أعدادًا أكبر من الشرائح المتوسطة في مجاهل الحاجة والفقر، وإذا كان الاقتصاد غير المتوازن هو البنية التحتية لأزمات المجتمعات فإنه يفرز أشكالًا من الفساد وضياع الإنسانية وتشييء البشر، أشكالًا تصنع الفوضى، والحروب وانهيار الدول، مُبدّلة الخارطة العالمية كلها، ويبدو أننا مع صعود الممثل الأسوأ لذلك النظام، ونحن في بداية هذا الطريق.
لقد تلمس كثير من المفكّرين وخبراء الاقتصاد والسياسة العالميين تلك المشكلة، وعبّروا عنها بضرورة إعادة النظر في النظام العالمي القديم الذي لم يعد صالحًا لحل مشكلات العصر، وطرح كلٍ وفق مصالحه حلولًا وتصورًا لنظام عالمي جديد، فقدّم المرشح ترامب بعض إشاراته في خطبه وتصريحاته المختلفة، مثل تلويحه بإلغاء نظام العولمة وإعادة النظر في التحالفات الدولية، وترك المجتمعات الأخرى تحل مشكلاتها بنفسها وعلى حسابها الخاص، وأثار البعد القومي العنصري الكامن في أعماق الشباب الأبيض الأميركي بشعار “أميركا القوية” و”العدالة للمهمشين”، وسرق غضب الجمهرة الواسعة من النظام السائد الذي لم يستطع إنصاف الفقراء، واصفًا إياه بالنظام الفاسد وسدنته بالفاسدين.
ليس مهمًا في تحليلنا هذا إن كان ترامب جزءًا من النظام نفسه الذي ينقده، ولا يهمنا دجَله أو غوغائيته، ولا تناقض شعاراته، بين إثارة المشاعر العنصرية التي تُفكك نسيج المجتمع الأميركي وبين الدعوة لإعادة الهيبة الأميركية العالمية، ثم تغيير التحالفات والعلاقات القديمة التي نالت أميركا هيبتها من خلالها، إنما الأهم أن صعود تلك الشعارات وتجاوب الجمهور معها هو إشارة واضحة على بدء النظام العالمي الجديد، ذلك النظام الذي لن تستطيع أميركا إعادة مكانتها السابقة فيه مع رؤوس متعددة تنافسها علميًا واقتصاديًا وإلى حدٍ ما عسكريًا ونفوذًا سياسيًا في العالم، وكيف يستطيع ترامب الأميركي العنصري المتعجرف التحالف مع مثيله العنصري المتعجرف الآخر بوتين؟! وكيف لهما تقبّل الصاعد الصيني المتحدي لهما، أو الهندي أو تكتل آسيان أو الاتحاد الأوربي أو دول لاتينية تقتحم الأسواق العالمية، أو… أو… وكيف يمكن أن تستعيد أميركا لقب العالم الحر الديموقراطي وهي تدعم الديكتاتوريين وقاتلي شعوبهم ومدمري بلدانهم -وفق ما أشار ترامب في تصريحات الترشيح- مع العلم أن تلك السياسة هي التي أفقدت أميركا هيبتها في عيون شعوب العالم وغذت مشاعر الكراهية لها؟! هل يستطيع ترامب إقناع الشباب الذي انتخبه والذي غذى فيه مشاعر الزهو القومي بأن أميركا لم تعد قائدة العالم ولا القطب الوحيد فيه، وأنها لم تستطع حتى المحافظة على مصالحها في الشرق الأوسط مثلًا؟ هل يستطيع ترامب أن يبني نظامًا عالميًا جديدًا يُحافظ على التفوق الأميركي دون حروبٍ عالمية كالتي أنتجت النظام العالمي القديم؟ وهل يمكن لترامب بالرغم من إرساله رسائل الإعجاب ببوتين أن يجعله يُصدّق إعلاناته، وتكف الأجهزة الروسية عن تتبع نقاط الضعف الترامبية لتُمهّد لقيصرها إعادة الجلوس على القطبية الثنائية لإدارة العالم كما يطمح بوتين بها؟ بل هل يستطيع حتى إعادة الجمهور الواسع الذي انتخبه إلى القمقم بعد دغدغته لمطالبه وأحلامه وإطلاق الشعارات الشعبوية كلها التي تحقق مصالحه؟
لاشك أن وصول شخصية مثل ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة الأميركية يُثير جدلًا واسعًا في اتجاهات متعددة، وبخاصة أن حملته الانتخابية وتصريحاته فيها، توحي بشخصية (البلطجي) الذي لا يليق بالوجه الحضاري الأميركي التقليدي، ولن يُخفف من هذه المشاعر الصلاحيات المحدودة في النظام الأميركي للرئيس، ولا وجود مؤسسات عريقة قادرة على لجم نزعاته التي أبداها في حملته الانتخابية، فبنية الرجل التي كونها من خلال نوادي القمار وتجارة العقارات، واستغلال عماله وموظفيه، والدخول من خلال العولمة باستثمارات عالمية، تجعله عنوانًا لصورة يصعب التفاؤل بها، بل تجعله عنوانًا لنظام عالمي جديد يُغرق البشرية بمصائب جديدة.
وإذا كان تشومسكي قد توقع الانهيار الأميركي بعد هذه الإهانة الكبيرة لمجد أميركا، فلربما سيكون هو الانهيار الذي يُبشّر بولادة جديدة للعلاقات البشرية، فقد وصلت دورة النظام الرأسمالي العالمي إلى إغلاق حلقتها، ولابد من نظام جديد مختلفٍ لإعادة فتحها، نظامٍ يكون عنوانه سقوط بلطجية العالم وشروق شمسٍ جديدة، لا يكون فيها محلٌ لأمثال ترامب أو بوتين أو الأنظمة الدينية المطلقة الصلاحية كنظام الولي الفقيه، أو المستبدين الصغار كبشار، أو المظالم الشديدة السواد للنظام العالمي القديم. فمن أمثال عامتنا “إذا ما بتخرب ما بتعمر” وربما خراب ترامب وبوتين إنذار بعمار قادم.
[sociallocker] [/sociallocker]