زمر الدم الكاذبة


عبد الرزاق دياب

ليس دمي دمك. وما حفظته وتعلمته كان درسًا في القومية العربية مبالغًا فيه لدرجة الوهم، وهذا الدم الواحد لم يكن أبدًا متطابقًا عند أول جرح، وتلك الأماني والأحلام فرقها المصير المشترك الذي طالما صدّع رأسي به أساتذة التاريخ القريب والبعيد، وها أنذا أكتشف دون مقدمات خديعة الكتب الرخيصة.

بعد تلك الحلقة المتلفزة بكى كثيرون من مشاهد الموت الموزع من الجنوب إلى بيروت، وفي الصباح كانت أحاديث نساء الحارة أمام أبواب البيوت عن الأمهات المنتفخات موتًا، والأطفال مقطعي الأوصال، وأما الرجال فيتراكضون في حيرتهم. هذا يستطيع أن يحمل سلاحًا وذاك بإمكانه أن يرمي وردة لمقاتل، والبقية دفعت آخر ليرات من أجل هذه الأخوة المسفوحة.

ورق الجريدة كانت متشحًا بسواد الحبر، فيما اللون الأحمر يقفز من الصورة لمجزرة قانا. كل الصحف القومية تستنكر، والقرّاء يذرفون الدمع ويستذكرون الأوصال المقطعة، والجريدة تمطر من حزنها، وفي الوسط صورة كبيرة لآخر طفلٍ في قرية جنوبية قطّعته طائرة عابرة.

أبي ورجال الحارة في بيت الحج (عقلة) إنها سنة 1982، والسؤال المحيرّ بعد دخول الجيش السوري في المعركة ترى هل من نزوح جديد، فصواريخ الصهاينة تتساقط على القطعات العسكرية في جبل الشيخ، وفيروز تحولت من صوت فنجان القهوة الصباحي إلى أنشودة حرب تنادي قمر (مشغرة).

مرت سنوات على تلك المعركة، ومات جميع الرجال الذين وسوست لهم الحرب ذكريات الفرار والنزوح الكبير، وكبر الأولاد الذين كانوا يستمعون صامتين إلى أحاديث الخيانة والصمود والهروب والكذب الفاضح الذي كانت تبثه الإذاعات من عنتريات فارغة، وبطولات من ورق.

جاءت بعدها سنوات القيامة الجديدة، وأطلق الإخوة النار على بعضهم، وفجأة وكأن كل الدروس كانت من أجل علامات الانتقال إلى صفوف أعلى، نحفظها وننسى، والمذبحة أخذت صورة الملحمة، والضحايا من كل الأطياف التي اتفقت ذات يوم على عقد وجودها، وصارت البلد جزرًا موزعة على القراصنة المتوحشين.

كأننا لم نكن سوية في يوم الجلاء، ولم نكن نغني معًا لوطن خلّصناه من رجس آخر جندي فرنسي، يا أستاذ التاريخ ألم تكن تشطب علاماتي لأنني لم أكتب عن الوطن الواحد أنه بلد يضم جميع السوريين أصحاب التاريخ الواحد والمصير المشترك.

اليوم تخرج الفتيات من بلد شقيق  كما تعلمنا أن نناديه. وتصب لعناتها عن انحطاطنا التاريخي في أننا حتى لا نستحق الخروج برفقتهن، وأن السوري كائن متخلف آخر لا يشبه لبنان العتيد الكبير الواسع المنفتح الحر.

ليس دمي من دمك. داخل هذا الوطن الخرافي وفي جواره البليد المتكبر البشع، وليس دمي من دمك في الحواري والبلدات المتقاتلة على الطواطم الوطنية والتاريخية والمعنوية والقومية.

ها هو دمي المستباح تحت عنوان درس التاريخ وخريطة الجغرافية الكاذبة، دمي الذي لا يساوي الآن لحظة حفظ الدرس من أجل امتحان شفهي.

هي الحرب الكاشفة للدم، الدم المزور الذي لا يجمع إلا القتلة في حبهم للذبح، وأما ذاك الذي قرأت عنه لم يكن سوى فخٍ أرادوه من أجل الانتقام لدمٍ خبؤوه في صدورهم لسكاكين التطهر من إثم الانزواء.

“الترا صوت”