on
في انتظار وعد السراب
تهامة الجندي
لا أذكر أني التقيتُ عدنان الزراعي، استرعى انتباهي اسمه، وأنا أتابع مسلسل “فوق السقف” الذي تبثه الفضائية السورية، في أول رمضان مر بنا بعد الثورة وانهيار حاجز الخوف. كان ضغط الحراك السلمي قد أدى إلى توسيع هامش حرية التعبير، وكان الأمل يملأ القلوب بوضع نهاية للاستبداد والفساد مع إقبال العيد، والبدء ببناء دولة مدنية، يتسع صدرها لكل السوريين.
في ذاك الحين كان “فوق السقف” المسلسل السوري الأول الذي تجرأ وقارب ما يحدث على أرض الواقع، من خلال لوحات انتقادية ساخرة، ألفتها مجموعة من كتاب السيناريو، تناولت فساد المسؤولين وقمع المظاهرات وبيانات التنديد، وتحدثت عن ناشطي الفيسبوك والجيش الإلكتروني، وعن انقسام أفراد الأسرة الواحدة إلى مؤيدين للنظام الحاكم ومعارضين له. كما عكست تباين الآراء والمواقف مما يجري، عبر شخصيات متنوعة من الشبان والسياسيين والمثقفين ورجال السلطة والأمن، إلى الفئات الصامتة.
اللوحات التي حملت توقيع “الزراعي” كانت: “مختار قدري”، “زفاف في زمن الأزمنة”، “ما في شي” و”كوما”. وكان من السهل تمييز مناخها الخاص، الذي يقوم على بناء الشخصيات من الداخل، وعلى تقابل شخصيتيّ المسؤول والمواطن العادي، في إطار حبكة درامية مليئة بالإشارات إلى مواطن العطب التي تركتها فينا منظومة القمع الشمولية، وأولها إنكار حقيقة ما يجري حولنا من متغيرات جذرية.
كنتُ أتابع المسلسل، وأتساءل: كيف سمحت الرقابة بمروره؟ وكانت الإجابة تأتيني بالتدريج، مع خضوع الحلقات الأولى لمقص الرقيب، في أكثر من مشهد، ثم منع عرض بعض الحلقات، إلى أن أوقف العمل كاملًا في حلقته الخامس عشرة.
انتهى الموسم الرمضاني، ولم ينتهِ زمن البطش، بل زادت وتيرته وحدته، وبعد بضعة أشهر، قرأتُ خبر اعتقال الكاتب عدنان الزراعي، يوم السادس والعشرين من شباط/ فبراير 2012. ومكوثه الطويل خلف القضبان يؤرقني ويؤلمني، مثلما يفعل بي كل سجناء الرأي في سورية. عند مساحة عذابهم الهائل، أكتشف عجزي المطلق.
أقلبُ صفحات الإنترنت، علّني أتعرف أكثر إلى عدنان؛ أجد القليل من المعلومات، لكن كل واحدة منها تفتح الباب على مأساة أخرى من مآسينا نحن السوريين؛ حتى لكأنها سيرة أنموذجية للقهر الذي صنعه لنا إرث الطغاة.
ينحدّر عدنان من حي “بابا عمرو” في مدينة حمص، المدينة الثائرة، والحي الشعبي المنكوب الذي دمرته طائرات النظام تدميرًا كاملًا. وكانت معاناة أهله تحت القصف تعذبه وتضغط عليه، وهو يجد نفسه غير قادر على مساعدتهم، إلى أن انقطعت الاتصالات بينهم، ولم يعد يعرف شيئًا عن مصير إخوته، ولا عن مكان أمه التي أُصيبت بشلل نصفي، وكان يعبر عن رفضه وقلقه على صفحته في فيسبوك.
وتجليات قلمه المعارض لم تقتصر على صفحات التواصل الاجتماعي، ولم تبدأ مع الثورة. نقمة عدنان على سوء الأوضاع في سورية، نجدها في كل الأعمال التي قدمها بعد رفض قبوله في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق، ولا سيما في اللوحات الدرامية التي كتبها لمسلسل “بقعة ضوء”، وتحديدًا حلقته الرائعة (الرجل البخاخ)، وكان من الطبيعي في عرف أحكام الطوارئ، أن يجري تأديب هذه الموهبة المشاكسة.
خرج عدنان من بيته للتسوق واختفى، مثلما اختفى نصف مليون معارض في أثناء الثورة. احتجزوه إلى جانب أخيه المعتقل منذ زمن بعيد، وكان سجانه يتعمد مضايقته وأذيته، وتحت التعذيب كُسر أحد أضلاعه؛ حتى اليوم لا يزال ينتظره طفله الرضيع، الذي بات في الرابعة من عمره، وكذلك تفعل زوجته رهف الكردي، التي اعتقلتها قوات الأمن في منتصف 2013 لمدة، ثم أطلقت سراحها. ينتظر الاثنان وعد السراب، ولا يعرفان ماذا حلّ برب العائلة، ومتى يعود.
المصدر