on
الحُبُّ الوَعر
نجم الدين سمان
طوالَ المسافة؛ ليلًا؛ حتى حدودِ لبنان؛ كانت معي.
لم ينتبِه إليها المُهَرِّبُ الذي يقودنا في ظُلمَةِ الليل؛ أخذَ منّي عُربُونَ شخصٍ واحد؛ ثم قال:
– عندما نَصِل إلى لبنان.. تدفع باقي المبلغ.
لم أكن أنوي أن أُغَادِرَ سورية؛ لم أفكِّر يومًا بأنّي سأصبحُ مُجرَّدَ لاجئ غير شرعي؛ في بلدٍ هو جارُ بلدنا؛ لكنه لا يعترِفُ حتى باللاجئين الشرعيين؛ بل يُضيِّقُ عليهم سُبُلَ العيش؛ كأنّما علينا أن ندفعَ بعدَ سنواتٍ الضريبةَ مُزدَوَجَةً: ضريبة استبدادِ النظامِ بنا؛ واستبدادِهِ بجيراننا اللبنانيين.
أردَفَ المُهَرِّب:
– سنتفادَى نقاطَ حزبِ الله؛ وتفادَوا أنتُم حينَ تصِلُون مناطقَ أنصَارِه.
ثمَّ أطلَقَ آهةً سحيقةً مِن بينِ رئتيه:
– أنا من بَلدَةِ “القصير”؛ نجَوتُ بأعجوبةٍ مِن بينِ أيديهم؛ ومن الَمذبَحَة.
قلتُ في نفسي:
– يَخَالُ نفسَهُ قد نَجَت؛ جسَدُهُ وحده.. مَا نَجَا.
فأردَفَ المُهرِّبُ:
– لم أعُد أنامُ بعُمقٍ منذ عام؛ أغفو رُبعَ ساعةٍ لأفيقَ على صُوَرِ المذبحة.
تخيَّلتُ كوابيسَهُ على هيئةِ صورةٍ فوتوغرافيةٍ لزوجته وأطفاله؛ تتناهشها السكاكينُ، من حيث كانوا يبتسمونَ للكاميرا؛ ولحياةٍ انتهت بموتٍ رَجِيم.
نهضَ المُهرِّبُ وقد ابتلعَ غصَّتَهُ وقِصَّتَه:
– أمامنا أربعُ ساعاتٍ من المشي، أو أكثر، بحسب التيسير، اطمئنُّوا؛ أنا ابنُ المنطقة، وأحفظُ دروبَهَا جيدًا.
فتخيُّلت دُروبَهَا مَنقوشةُ بالحِنَّاء في باطِنِ كَفَّيه.
قال أيضًا:
– ممنوع حتى الهَمسُ بينكم؛ والتدخين؛ ربما كَشَفَنَا بَصِيصُ سيكارة؛ مفهوم.
فالتفتُ إليها.. هامِسًا:
– هل تستطيعينَ السيرَ أربعَ ساعاتٍ مُتواصِلَة؟!
كأنّها أومَأت إيجابًا؛ فمازَحتُهَا:
– سأحمِلُكِ على كتفيَّ ما تبقّى من الطريق.
كأنّما ضَحِكَت؛ فَضَحِكتُ لها؛ رمقني جاري في القافلة؛ ثمّ كأنّهُ هَمَسَ لزوجته:
– الله يعين الناس؛ صارت تحكي مع حالها؛ مِن هَولِ ما رأيناه.
انطلقَ الجميعُ في عَتمَةِ الليل؛ من أطرافِ حيِّ الوَعر في حمص؛ باتجاه الحدود اللبنانية.
فيما بعد.. استلمَنِي مُهرِّبٌ آخرَ؛ قُربَ مرفأ طرابلس؛ أخذ منّي -أيضًا- رعبونَ شخصٍ واحدٍ؛ وسيأخذُ ما تبقّى حين نَصِلُ قِبَالَةَ مدينةِ “مِرسِين” التركيّة؛ لم يقُل: إلى مِرسِين؛ ثم سأل:
– مَن مِنكُم يعرِفُ قيادةَ قاربٍ مطّاطي؟
رفعتُ يدي أنا وآخرون؛ فتابَعَ:
– كلّ واحدٍ منكم قائد مجموعةٍ من عشرة أشخاص؛ سنُنِزِلُكُم إلى قوارب مطّاطية قِباَلة مرسين؛ وتقودونها أنتم إلى الشاطئ.
ثمَّ كأنَّها سألتني:
– متى تعلّمتَ قيادةَ القوارب؟!.
فضحكتُ:
– كانت لديّ دَرَّاجةٌ ناريّة؛ الفَرق هذه المرَّة.. شَوفَرَة على الماء؛ وليسَ على الإسفلت.
على ظهرِ باخرةِ النقل؛ ما بينَ صناديقِ البضائع؛ تمَدَّدنا؛ استعملتُ مِعطَفِي الطويل.. غطاءً لنا؛ وكتفي مع ذراعي.. وِسَادةً لرأسها؛ ثم أخذَنَا نَومٌ طويل جدًا؛ حتى لكأنّا لم نَستفِق إلّا قِبَالَةَ شاطئِ مِرسِين.
كان الوقتُ ليلًا.. أيضًا.
حين أنزلونا إلى القوارب المطاطيّة؛ خِلتُها قد تاهَت مِنّي؛ أنزلوها إلى قاربٍ لستُ فيه؛ ثمّ هَدَأت روحي حين لَمَحتُهَا في قاربي؛ تتدثَّرُ بمعطفي.
من حَظِّنا.. كان البحرُ رائِقًا؛ وأضواءُ مِرسين واضحةً في عَتمَةِ الليل؛ فاتجهتُ بالقارب نحوها.
لكنّ الحظّ.. لا يأتينا في كُلِّ مرَّة؛ وبخاصةٍ حين يُداهِمُنا الموتُ في كلِّ مرَّة؛ في البحر أو على اليابسة؛ ومع كلِّ قذيفةٍ؛ مع كلِّ طلقةِ قَنَّاصٍ يتربَّصُ بك؛ وبين يديكَ رغيفُ يومِكَ؛ حتى لا يُباغِتَك الحِصَارُ –أيضًا- بالموتِ تجويعًا.
حين صَعَدنا -للمرّة الثالثة- إلى قاربٍ مطّاطيّ؛ وتكدَّسنا فيه: عشرينَ رجلًا وثماني نساءٍ وطفلين؛ لم يكن بحرُ “إيجَة” رائِقًا؛ وقال لنا المُهرِّبُ التركيّ:
– الجزيرةُ اليونانية على بُعد ثلاثة أميالٍ بَحرِيَّةٍ فقط.
ثم أضافَ مُخَاطِبًا إيَّاي:
– حَاذِر أن تضِيعَ البُوصِلَةُ منك.
فمازحتُهُ:
– لا تقلق.. تعلَّمنا في فوج كشَّافة حمص؛ المسيرَ الليليّ بواسطة النجوم.
صَرَخَ بنا: انصرفوا.
بعدَ مِيلٍ بَحرِيَّةٍ واحدة؛ تغيَّرَ كلُّ شيء؛ صارَ البحرُ أكثرَ اضطرابًا؛ وتلبَّدَت السماءُ بالغيوم؛ فضحكتُ حينَ هَمَستُ من خوفي؛ بيني وبينَ نفسي:
– سنرى نجومَ الظهر.
رأيتها تضحَكُ أيضًا؛ حتى بَانَ المَفرِقُ بينَ أسنانها؛ فبدَت لي كأرنبةٍ وقد باغَتَها دُوَار البحر؛ ثم أتتنا موجةٌ عاليةٌ قليلًا؛ واهتزَّ المركبُ بنا؛ قال شابٌ من بانياس:
– الله يسترنا من المَوجَةِ السابعة.
مع الموجة السادسة.. خِلتُهَا تنزلِقُ من القارب؛ ويتخَاطَفُها الموج؛ وكِدتُ أتركُ المِقوَد؛ وأرمي بنفسي وراءَهَا لأُنقِذَهَا.
للتوِّ.. انحسرَت المَوجَةُ؛ فرأيتها تمسَح الزبدَ عن وجهها؛ وتبتسمُ لي.
مع الموجة السابعة.. شَعَرتُ بأنِّي أنزلقُ إلى القاع؛ والموجُ يُدَوِّمُ بي؛ حَبَستُ الهواءَ في رئتيّ؛ مُحَاوِلًا الصعودَ إلى سطح البحر؛ خِلتُ لوهلةٍ بأنِّي نَجَوتُ؛ وبأنِّي لَمَحتُها بقربي؛ فانتشلتُهَا من غَرَقِهَا ومن غَرَقِي؛ ثمّ تلاشى إحساسي بِوَزني؛ وبِرِئَتَيّ؛ وبالمِلحِ الذي أنا فيه؛ ولم استفِق إلّا هنا؛ لَمَحتُ وجهَهَا يبتسمُ لي؛ ثمّ عُدتُ إلى غيبوبتي؛ وكأنّما أتهادى إلى قاعِ البحرِ من جديد.
حين صحوتُ.. ابتسمَت مُمرِّضَةٌ لي؛ ثمّ قالت شيئًا بِلُغةٍ لا أعرفها؛ ثمّ جاء الطبيب؛ فسألني:
– هل تعرف الانكليزية؟!.
أجبتُهُ: – ليس كثيرًا؛ وليس قليلًا.
فابتسمَ الطبيبُ اليونانيّ؛ وربَتَ على يدي:
– كُتِبَت لكَ حياةٌ جديدة؛ وَجَدَكَ الصيّادون تطفو على سطح الماء.
سألتُهُ: – وهي؟!.
فقالت له الممرضة باليونانية؛ ثم ترجَمَ الطبيبُ لي:
– تقولُ الآنسة بأنكَ طوالَ الوقت كُنتَ تهذي؛ وتُنادي باسمٍ ما؛ طوالَ غيبوبتك.
التفتُ نحو الممرضة:
– أمل..؟!.
هَزَّت رأسها إيجابًا؛ وابتسمَت؛ فرَجَوتُهُ أن يبحثَ عنها؛ في المستشفى هنا؛ وكِدتُ أنهضُ وأنا أقولُ له:
– أو سأبحثُ عنها بنفسي عند الشاطئ.
رَجَاني أن أهدَأَ؛ ثمّ أخرجت الممرضة شيئًا ملفوفًا بالقصدير؛ داخِلَ كيسٍ بلاستيكيٍّ مُفرَّغٍ من الهواء؛ أعطتني إيّاهُ؛ فعرفتُ بأنّه هاتفي النقّال ومعه أوراقي؛ ثمَّ تبيَّنَ لي بأنه ما يزالُ يعملُ؛ فسألتُ الطبيب:
– هل لديكم إشارةُ إنترنِت؟!
قال: – لا تُوجد إشارةٌ عامَّةٌ هنا.
علّقت الممرضة: – في جهازي انترنت.
سألتها إذا كانت تستخدمُ “الواتس أب”؛ وحين قالت: أحيانًا؛ رَجَوتُهَا أن تتصِلَ برقمٍ أعطيتها إيّاه؛ رَنَّ الهاتف كثيرًا ثمّ صَمَت؛ قالت الممرضة بأنّ الرقمَ خارج التغطية.
كَتَبَ الطبيبُ أدويةً لي؛ ثمَّ غادر؛ فأحسستُ بالوَهنِ من جديد؛ ثمّ بإبرةٍ في وَرِيدِي؛ ثمّ باسترخاءٍ.. كأنما لو أنِّي داخل ضَبَابٍ أبيض؛ وفي بستانٍ أعرِفُهُ؛ ثمَّ غَفَوت.
حين استفقتُ.. جاءت الممرضة وهي تُبَرطِم بِلُغَةِ زوربا؛ مُشيرةً إلى هاتفها؛ مُرَدِّدَةً اسمَ أمل؛ ثم ناولتني هاتفها؛ فأدركتُ حينها بأنّ أمَل ما تزالُ في حيّ الوعر؛ فاتصلتُ؛ كأنما كان رنينُ المكالمة الآن؛ يلفُّ حَولَ الأرض كلّها؛ ليصِلَ إليها؛ سمعتُ ضجيجًا فقط؛ فصرختُ:
– أمَل.. أمَل.
انقطعَ الاتصال.. فحاولتُ ثانيةً: – أمَل.. أمَل.
أخيرًا.. سمعتُ صَوتَها وسطَ الضجيج:
– ما هذهِ الأصواتُ مِن حَولِك؟.
– أنا تحت القصف؛ لا تهتمّ؛ عُمر الشَقِي.. بقي؛ المُهمّ سلامتك أنت.
– الأوباش.. عادوا إلى قَصفِ الوَعر.
– تعوَّدنا..
ثمَّ صوتُ قذيفةٍ قريبة؛ سادَ صمت؛ تجمّدتُ؛ ثمّ صوتُ قذيفةٍ ثانية؛ أقوى من الأولى وأقرَب؛ حتى أن الممرضة قد سمِعَتهُ فارتعدَت؛ قلتُ لها:
– سورية.. حمص.. الوعر.. نظامنا يقتلنا؛ جيشنا يقصفنا.
ثم جاءني صوتُ أمَل من جديد:
– خَمِّن.. أينَ أنا؟.
– في الوَعر..
ضحِكَت.. سَمِعتُ ضحكتَهَا؛ ثم قالت:
– تحت التخت.
– شُو؟!
– تعرِف تَختَ أمّي النحاسيّ القديم؛ تختَ ليلةِ دَخلِتهَا؛ المُوَرَّق بعناقيد العنب؛ وعليه فَرشَة صوف؛ أنا تحته؛ لا تُشغِل بَالَك عليّ.
– سلامتك يا عيوني.
– ولا يهمَّك.. لِسَّه فيه أمَل.
– صِرتُ باليونان؛ لو هَرَبتِ معي؛ كنّا الآن بخير.
– كيف سأترُكُ أمّي وَحدَها؛ أنتَ سمِعتَها حينَ قالت: لن أخرُجَ من بيتي إلّا إلى قبري.
– نعم.. سَمِعتُهَا.
تابعت أمل:
– ثمَّ خَطَفَتها قذيفةُ هَاونٍ وهي تَشتِلُ الباذنجان في حديقةِ البيت.
خِلتُ بأنّي أرى دمعتين في عينيّ أمل؛ رغم أنها تحكي عن الموت؛ كما لو أنها تحكي عن شيءٍ يوميّ؛ ثمّ أتاني صَوتُهَا مُتقطِّعًا:
– أزهرَت الشَتلات؛ قطفتُ ثمارَهَا صغيرةً وغَضَّة؛ عَمِلتُ منه “مَكدوسًا” بآخرِ ما تبقّى لدينا مِن زَيت؛ ثمَّ وَزَّعتُهُ للجيران على روحها.
كانت الممرضة تبتسم بينما تَسمعُ حوارًا لا تَفهَمُه؛ فحَجَبتُ الجَوَّالَ غريزياَ بكفّي وهَمَست:
– أموت في مَكدُوسَاتِك يا “أمُّول”.
سمعتها تضحك:
– أموت فيك يا غليظ؛ ما عاد يهمُّني شيء في الدنيا وأنا أسمع صوتك؛ بحِبَّك..
رَفَّ قلبي بين رئتيّ.. كادَ يطيرُ إليها؛ مَازَحتُها:
– بحبِّك أكثَر من المكدوس..
ثمّ سَمِعتُ أصواتَ قذائفٍ لا يُمكِنُ عَدُّها؛ وتقطّعَ الصوت؛ لم أدرِ إذا كانت قد سمعتني.. انقطعَ الاتصال.
– أمَل.. أمَل.
كِدتُ أهوِي من السرير؛ أسندتني المُمرِّضَةُ؛ ودخلتُ في غَيبُوبَتِي مِن جديد.
استانبول 20 – 11 – 2016
المصدر