«ثقافة القهوة» عبر العصور في الشرق والغرب


القهوة من أسماء السحر. مجرّد التلفّظ باسمها يحيلنا إلى شرق آخر. منها تخرج الأبخرة الساخنة، مثلما يخرج الجنّ من قارورة مقفلة، تنفتح فجأةً، كما في حكايات «ألف ليلة وليلة». ليس مجرّد مشروب عادي هذا الأسود بلون الليل، هذه الرائحة العبِقة بدفئها الحميم. إنها مرادف لليقظة والسهر والوحدة والتذكُّر والصداقة. غالباً ما نلتقي حول فنجان قهوة. وغالباً ما تكون القهوة ثالثنا أو رابعنا أو أكثر…
للمرة الأولى، يُخصص معرض كبير بكامله في متحف فرنسي لهذا المشروب، وهو أكثر المشروبات شعبية في العالم. عنوان المعرض «قهوة إن» (Café in) يقام في متحف «موسم» Mucem المعروف بتركيزه على المواضيع المستوحاة من الحضارات المتوسطية.

يضم المعرض مجموعة كبيرة من الأعمال الفنية والصور والوثائق النادرة والأواني التي تروي قصة هذا المشروب العالمي بأبعادها التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والفنية… لماذا تعلق الناس بالقهوة، ولماذا يشربونها في أنحاء العالم منذ قرون؟ كيف انتشرت زراعة البن في القارات، فصار من أكثر السلع تداولاً بعد النفط الخام؟ كيف تحولت المقاهي الى أندية للقاءات الثقافية والسياسية؟ أسئلة كثيرة يجيب عنها هذا المعرض الاستثنائي الذي أشرف عليه الإعلامي والسينمائي الفرنسي جان ميشال دجيان، بالتعاون مع مؤسسة شركة مالونغو Malongo المتخصصة في إنتاج القهوة ومشتقاتها. وهي أعارت المعرض مجموعة مهمة من الأواني والملصقات التي تختصر ملامح من «ثقافة القهوة» عبر العصور بين الشرق والغرب.

قيلت روايات كثيرة عن نشأة القهوة، ومن الثابت أنها اكتشفت في إثيوبيا ومنها انتقلت الى شبه الجزيرة العربية ومصر ثم الى بلاد فارس وأقاليم الإمبراطورية العثمانية. رسمياً، ولدت زراعة البن في القرن الثاني عشر، غير أنها كانت معروفة قبل هذا التاريخ. منذ خروجها من موطنها الأصلي في إثيوبيا، صارت القهوة تعكس العديد من التطورات في المجالات الاقتصادية والتجارية والعلاقات البشرية. ومن العالم الإسلامي انتقلت القهوة الى أوروبا في القرن السابع عشر، وكانت مدينة مرسيليا المحطة الأولى لها في فرنسا.

يكشف المعرض أن أول بيت فرنسي للقهوة كان في هذه المدينة المتوسطية، وقد تأسس عام 1671 بعدما صارت تصل إليها شحنات البن، وكان أولها عام 1644 من الإسكندرية. أما باريس، فقد تعرفت إلى القهوة في الربع الأخير من القرن السابع عشر عندما كان سليمان آغا، سفير الدولة العثمانية لدى الملك لويس الرابع عشر، يقدمها على الطريقة التركية الى «ضيوفه الكرام». عام 1672، ولد أول مقهى في العاصمة الفرنسية على يد أرمني يدعى باسكال. ولقي المشروب نجاحاً كبيراً في القرن الثامن عشر، وكانت يوجد في باريس عشية الثورة الفرنسية نحو ألفي مقهى.
من الأمور التي يكشفها المعرض، أن انتشار القهوة والمقاهي لم يمر بسلام بل رافقه سجال حول شرعيته في العالم الإسلامي، وهناك العديد من علماء الدين الذين دعوا الى إقفال بيوتها بسبب تشجيعها على «الانحلال الأخلاقي». أما في فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية، فقد حققت المقاهي منذ البداية نجاحاً ثقافياً واجتماعياً باهراً. ونتعرف في المعرض، إلى شهادات الكتاب والفنانين الذين عشقوا القهوة وتغزلوا بفضائلها على صحتهم وعلى مزاجهم بسبب ما تمنحه من شعور بالقوة واليقظة. وكان الفيلسوف فولتير يحتسي عشرين فنجاناً من القهوة يومياً، أما الروائي بلزاك فأكثر من خمسين. والأديب فيكتور هوغو كان يستعمل محلول البن في رسومه.

«احتساء القهوة يجعلك ترى العالم بطريقة مختلفة»، قال لنا جان ميشال دجيان، المشرف على المعرض، أثناء لقائنا به. وأضاف: «أنا من عشاق القهوة وقد أحببتها كما أحبها الشاعر أرتور رامبو الذي عمل في تجارة القهوة في سنوات حياته المشردة بين عدن وشرق أفريقيا. هناك ألّف حكاية وحكاية رافقت القهوة منذ انتشارها. وقد حرصت في هذا المعرض، على إبراز الجانب الأدبي في ثقافة القهوة. ويمكن الاطلاع في المعرض على نصوص لكتّاب من جنسيات مختلفة عن القهوة كتبوها خصيصاً للمعرض».

معرض «قهوة إن» رحلة بين الشرق والغرب نستعيد فيها صفحات من التاريخ البشري وإبداعاته وذائقته وكيف تنشأ الأساطير والطقوس والعادات المرافقة لبعض الأشياء التي نرتبط بها وتصبح فصلاً من حياتنا اليومية.
وصف القهوة في الأدب حالة قائمة بذاتها، كوصف بعض وجوه الجمال والطبيعة، وكوصف المدن التاريخية التي اتخذت مع ما أسبغه عليها الأدباء والشعراء صفة أخرى غير زمنيّة تَوسّع معها المكان وصارت المخيّلة جزءاً منه.



صدى الشام