جردة حساب على أبواب حلب


عمر قدور

قال مسؤول في البيت الأبيض أن رئيسه أوباما والرئيس الروسي بوتين قد تحدثا لمدة “أربع دقائق” عن سوريا وأوكرانيا، خلال قمة منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادي “آبيك”. نعم، أربع دقائق فقط للحديث في ملفي سوريا وأوكرانيا، وهذا ينبغي أن يُفهم من لم يفهم، أو لن يفهم، أن الحملة الروسية الحالية على حلب ومناطق سورية أخرى خارجة عن سيطرة النظام مدعومة كلياً برضا البيت الأبيض، وأن ما نسمعه من انتقادات فرنسية، على سبيل المثال، لا تقدم ولا تؤخر، شأنها شأن مساعي دي مستورا واقتراحاته التي تأخرت حتى لم يعد من فرصة لمناقشتها.

لكن كل ما نقوله عن تواطؤ أو صمت دوليين لا يشفع لمجمل ممارسات المعارضة التي ساهمت في إيصال الحال إلى ما وصل إليه، والمسألة لا تتعلق الآن بنقد عمومي يُوجّه إليها؛ هي بالأحرى جردة حساب واجبة لا يُنتظر أن تُقدم عليها من تلقاء نفسها. ورغم عوامل الأسى التي يخلفها الهجوم الوحشي غير المسبوق على حلب، أو بسبب ذلك تحديداً، تبدو جردة الحساب ضرورية، ولا يكفي بتاتاً تحميل المجزرة على ظروف قاهرة أقوى من المعارضة، مع الإقرار بتعرض جميع السوريين لما يفوق طاقتهم أحياناً.

أولاً، لا مفاجأة في ما يحصل الآن لحلب وسواها، ومن يدّعي وقوعه ضحية مفاجأة عليه الاستقالة والاعتذار لانعدام الكفاءة. كان كثر، ومنهم كاتب هذه السطور، قد حذروا منذ مدة طويلة من أن خط التنازل البياني لإدارة أوباما سيصل إلى ترك الساحة لتستفرد بها المافيا الروسية، وتطبق فيها مثال غروزني. كان معلوماً أيضاً موعد المجزرة، أي في الأشهر الأخيرة من عمر إدارة أوباما، حيث يمكن للأخير التنصل من مسؤولياته في الفترة الانتقالية. الذين كتبوا ونشروا هذه التوقعات استنتجوها من سياق الواقع، ولا يملكون قنوات الاتصال التي يُفترض بالمعارضة امتلاكها، ويُفترض تالياً أنها على بينة أكثر منهم بما سيحدث، باستثناء وقوع المعارضة ضحية خداع تُحاسب عليه، أو “وهذا مرجح” خداعها لنفسها، الأمر الذي يضاعف من شدة المحاسبة.

يصادف، مع الهجوم الوحشي على حلب، أن ينشر عميد منشق كلاماً عن مفاوضات التسليح مع مندوبين أمريكيين، منوهاً باعتراضه آنذاك على نوعية التسليح التي لا يمكن لها إحراز النصر على النظام، ومن ثم فإنها تساهم فقط بالخراب والدمار. إذاً، كان علينا الانتظار حتى هذه اللحظة البائسة ليكشف أحدهم ما كنا نعرفه، ولا ندري لماذا لم يظهر إلى الإعلام أحد من القادة السياسيين أو العسكريين لمكاشفة السوريين بحقائق التسليح، وهي ليست من الأسرار التي يُخشى كشفها لئلا يستفيد منها النظام، مع معرفة الأخير وحلفائه بكمٍّ من المعلومات أخطر وأدهى. لكن الأدهى حقاً هو ما لا يقوله العميد المنشق عن حال مخيم العسكر المنشقين في تركيا، وعن التحزبات والخلافات الصغيرة والتافهة بين العسكر؛ الخلافات التي استنزفت جهداً مستمراً من البلد المضيف لحلها كلما اندلعت. وهو، بصفته مساهماً فيها، لا يقول شيئاً عن دوره، ولا يقدم اعتذاراً عنه. ما يقدمه هو فقط بيان قصير، لتبرئة ذمته فحسب.

على صعيد متصل، يصادف أن يُنشر تسجيل لمعارض سوري، يروي فيه كيف أنه ومعارضين آخرين صمتوا أمام لافروف عندما سألهم عما إذا كان لهم مونة على الأجهزة العسكرية والأمنية التابعة للنظام، كي يتولوا قيادتها في حال سقوطه. بالطبع ثمة إجابات أفضل من الصمت، أو الوقوع فقط تحت خيار الإجابة بالنفي الذي يريده لافروف. مع ذلك، الموقف الأسوأ هو عندما يُسأل معارضون سياسيون عن مونتهم على الفصائل التي تقاتل باسم المعارضة، وقد سُئلوا في أكثر من مناسبة، وكان جوابهم نفي وجود مونة لهم على تلك الفصائل. السؤال الأساسي هو عن المتسبب في الوصول إلى هذا الوضع من الانفصال التام بين المستويين السياسي والعسكري؟ ولماذا سكتت المعارضة السياسية عن تمرير قضايا التسليح خارج مشاركتها؟ وكيف كان لها أن تشغل موقعاً محترماً في أية مفاوضات وهي لا تستند إلى أقل حجم من القوة الفعلية على الأرض؟ هذا إذا افترضنا أن لديها بعضاً من الشرعية المستمدة من التمسك بأهداف الثورة، وإذا تغاضينا عن كافة المآخذ إزاء سلوكيات قادتها، وقبلها إزاء صحة تمثيلها.

ميدانياً، من حقنا التساؤل عن التهاون والاسترخاء عندما كان النظام في لحظة ضعفه، وعندما لم يعد مسيطراً سوى على 30% من الأراضي. لم ينقلب الحال في لحظة بسبب الدعم الإيراني والروسي غير المحدود، فالكفة أخذت تميل تدريجياً لصالح النظام. في مثال حلب تحديداً كان ممكناً التصدي للميليشيات الإيرانية وميليشيات النظام قبل أن تهدد المدينة بالحصار، وكان هذا التصدي يوفر الكلفة الباهظة لمحاولتي فك الحصار في ما بعد. فوق ذلك هناك أسئلة عديدة عن المحاولة الثانية لفك الحصار، وعلى أي ميزان قوى كانت تستند بعد فشل التجربة الأولى. ونعلم جميعاً أن كلفة المحاولة باهظة على المقاتلين، وعلى مدنيي حلب الغربية الذين دفعوا الثمن من أرواحهم وممتلكاتهم، ولو كانت فرص النجاح جيدة لربما هانت التضحية لقاء إنقاذ حوالي ثلاثمائة ألف محاصر.

مع الأسف، أقل ما يمكن الادعاء به على هذه المعارضة، بشقيها، هو انعدام الكفاءة والاستهتار بمصائر السوريين وعدم الشفافية. الادعاء لا يأتي من لحظة الفجيعة الحالية، وإنما من تراكم مسبباتها، ومن تراكم الخطايا التي ارتكبتها التمثيلات السياسية المتعددة والفصائل المقاتلة باختلاف ميولها. لم تقدّم هذه المعارضة المثل المشرّف عن ثورة دفعت أبهظ الأثمان، إبادة وتهجيراً وتدميراً. أقل ما تفعله المعارضة قبل استقالتها هو الاعتذار ممن آمنوا بالثورة، الاعتذار الآن من دون التشكي والتباكي فقط من تخاذل المجتمع الدولي. إن فعلت ذلك تكون قد أثبتت اختلافها عن النظام في أمرين؛ شجاعة الاعتذار وشجاعة الاستقالة.

“المدن”