on
سماسرة ومكاتب تزوير تستغل حاجة السوريين للعبور .. تهريب البشر تجارة مزدهرة في الشمال السوري
قرب معبر خربة الجوز بريف إدلب الغربي وفي منطقة جبلية وعرة يتجمع المئات من النازحين الواصلين عبر السيارات القادمة من حلب وأنحاء مختلفة من إدلب، يقودهم سماسرة من أبناء منطقتهم ليوصلوهم إلى “المهرّب” الأساسي الذي ينتظرهم مع رجاله قرب المعبر.
تستعد صفاء المرأة الأربعينية مع أبنائها الثلاثة للمرة الثالثة خلال هذا الشهر للعبور، يقنعها رجل طويل أسمر بلهجته المحلية يُطلق عليه “أبو حسن” بقدرتها على تجاوز الحدود هذه المرة، وأنه على عكس المرات السابقة فقد اتفق مع حرس الحدود (الجندرما) التركية على تمرير هذه الدفعة بعد أن دفع أموالاً طائلة وفق قوله.
تفترش صفاء الأرض وسط أشجار الزيتون مع مجموعة كبيرة من الرجال والنساء بانتظار حلول منتصف الليل موعد التحرك، وقبلها بساعة يبدأ “كشّافو” أبو حسن بالتحرك. مجموعة من الفتية الصغار يتحركون بنشاط قرب السياج، يشيرون لمعلمهم باقتراب أو ابتعاد الدورية التركية.
خلال دقائق قليلة يطلب المُهرّب على عَجل من الجميع الاستعداد للانطلاق، يُشدد في كلماته الأخيرة على النازحين عدم إصدار أي ضجيج، وضرورة التوقف عند سماع أي صوت لتفادي إطلاق النار عليهم.
وعند وصول الإشارة تتحرك المجموعة المكونة من قرابة 150 شخصاً معظمهم من العائلات ويمشون نسقاً واحداً يتقدمُهم الشّبان والصبيان، بينما تتأخر النساء والعجائز، ويقف في النهاية شخص يعمل مع المهرب يُوجه النازحين ويطالبهم بالإسراع حيناً والتوقف للحظات حيناً آخر.
بعد ساعتين من المشي صعوداً ونزولاً وفي جبال وعرة تلتقط صفاء بعض أنفاسها، لا صوت وسط الظلام غيرُ وقع خطى المشاة تخترق آخر قمة من الجبال قبل الوصول. يساعدها أبناؤها على المضي قدماً بسرعة خشية عدم اللحاق بالمجموعة.
استطاعت صفاء مع بقية النازحين الوصول أخيراً إلى القرية التركية المجاورة، لكن الأمر لم ينتهِ هنا. يجمع رِجال “أبو حسن” النازحين في باصات صغيرة كانت في انتظارهم، ويطالبونهم بدفع مبلغ إضافي للمهربين الأتراك لاستكمال الرحلة، والعبور من القرية نحو بلدة “يلدا” المجاورة.
مبلغ 100 دولار إضافية للشخص الواحد عدا عن المبلغ الذي دفعه النازحون سابقاً لأبو حسن وهو 300 دولار للشخص الواحد يثير حفيظة بعض الواصلين، ويرفض بعضهم الدفع مجدداً، لتأتي صيحات السائقين الأتراك بصوت مرتفع وغاضب git)) أي إرحل من هنا.
لا مفرّ بعد الرحلة الشاقة من دفع هذا المبلغ لعبور حواجز الجيش التركي ودورياته المنتشرة على طول الحدود، فيما يتبرأ رِجال “أبو حسن” من هذا الاتفاق بالقول ” نحن أتمينا مهمتنا، وأنتم اتفقوا معهم”.
آلاف الدولارات مقابل ساعتين
تكلفت صفاء في رحلتها هذه مبلغ 1200 دولار للعبور مع أبنائها إلى تركيا، وبعد محاولتين فاشلتين نجحت بالوصول. تصِف صفاء عملية قطع الحدود بأنها “شبيهةٌ بورق اليانصيب”، فالطريق هو نفسه، والمهرب يسيطر على المنطقة ويمنع عبور أي أحد إلا بإذنه، فإن استطاع الوصول تقاضى منه المال.
وبحسبة بسيطة تقول صفاء إن 150 شخصاً في هذه الرحلة دفع كل منهم مبلغاً لأبو حسن لا يقل عن 300 دولار، أي ما مجموعه 4500 دولار حصل عليها المهرب خلال أقل من ساعتين. وتعلّق ” هؤلاء هم تجار البشر والحروب ينجحون في استثمار معاناة الناس ويبنون من خلالها ثروتهم الطائلة، إنهم لا يقِلون وحشية عن بشار الذي يقصفنا”.
على الجانب الأخير التقينا بأحد العاملين في مجال التهريب، وهو شخص عرّفنا على اسمه بأبي عبد الله الأنصاري. يدفع أبو عبد الله الاتهامات بالمتاجرة بمعاناة النازحين عن نفسه، وينفي ما يردده الأهالي بالقول:” يومياً يطرق بابي المئات من الواصلين من مختلف المناطق، كنت أعمل طوعياً سابقاً، وأدُلّ الناس على الطريق بدون مقابل، لكن وبعد إغلاق الحدود بشكل تام أصبحت الأعداد هائلة، وصرنا نعمل بمجموعات كبيرة حيث نحتاج للكشافة، ونعرّض أنفسنا ومن يعمل معنا للخطر”.
وحول سبب ارتفاع التكلفة التي يتقاضاها المهربون يوضح الأنصاري أن ” بعض من هذه الأموال تذهب للسماسرة الذي يجبلون النازحين، وجزء منها للكشافة، بينما نضطر أحياناً لدفع رشاوٍ للتغاضي عن مرورنا”.
ويرى الأنصاري في ختام حديثه الخاص لصدى الشام أنّ “المبالغ التي تدفع هنا تُعد زهيدة مقارنة بما يدفعه آخرون للدخول من معبر باب هوى أو من مناطق أخرى”، ويضيف ” لست سعيداً أبدا برؤية أهلي يعانون كل هذه المشقة يومياً ولكني أسعى فقط لمساعدتهم للوصول إلى مبتغاهم”.
وفي حصيلة رسمية حصلت عليها جريدة صدى الشام من مَصدر يعمل في معبر باب الهوى على الجانب السوري، ترَحّل السلطات التركية يومياً قرابة 500 شخص ممن حاول اجتياز الحدود بطريقة غير نظامية، فيما يذكر الأنصاري أنهم ينجحون في معظم الأوقات بإدخال بين 100 إلى 200 شخص إلى الأراضي التركية.
من أوقف لمّ الشمل؟
طُرُق أخرى للدخول غير النظامي ينتهجها البعض في بحثهم عن الوصول إلى الأراضي التركية وذلك عن طريق تزوير أوراق رسمية وتقديمها للدخول من خلال معاملة لمّ الشمل الذي سمحت به السلطات التركية قبل أكثر من ثلاثة أشهر.
وتنص قوانين معبر الهوى على أنه يَحِق للنازح السوري المقيم على الأراضي التركية تقديم أوراق عائلته من الأصول (زوج، زوجة، أب، أم، ولد، ابنة) ممن يقيم في سوريا للدخول إلى تركيا على أن يقدم الإثباتات الرسمية، وهي صورة عن البطاقة التعريفية (الكملك)، وبيان إقامة في المدينة التي يسكن بها، بالإضافة لجواز سفر صالح ونظامي، وصورة عن دفتر العائلة له وللشخص الذي يرغب بدعوته.
هذه الطريقة مكّنت مئات السوريين من الاجتماع بأسرهم خلال الأشهر الماضية، لكن السماسرة والمزورين استثمروا هذه المعاملة وجعلوا منها مصدراً للحصول على الأموال، وفق ما يؤكده المحامي خالد السالم المقيم في بلدة الريحانية.
ووفق “السالم” تنتشر في مدينة سرمدا الحدودية مكاتب لتزوير الأوراق الثبوتية مثل دفتر العائلة، ويعمل السماسرة السوريون بالاتفاق مع نظرائهم من الأتراك على شراء سند إقامة يحصلون عليه من قبل المختار التركي، ثم ما على الراغب بالدخول إلا الحصول على صورة عن هوية أحد الأشخاص المقيميين في تركيا من أقربائه أو أصدقائه ليعمل السمسار على تزوير بياناته ليصبح أحد أقربائه الأصول على الورق.
وتصل تكلفة هذه العملية وفق المحامي لنحو 1200 دولار، ويضيف السالم أنه: “عبر مواقع التواصل الاجتماعي هناك الكثير من الإعلانات لهؤلاء السماسرة، وهُم لا يخفون هذا العمل حتى، ويدّعون أنهم يساعدون الناس للوصول إلى تركيا”.
ولدى سؤلنا عن سبب إعلان معبر باب الهوى توقفه عن استقبال طلبات لم الشمل أكد مصدر يعمل ضمن المعبر طلب عدم الكشف عن اسمه أنّ “عدد طلبات لم الشمل العالقة حتى اليوم وصل إلى 1900، بينما السلطات التركية تسمح يومياً لحوالي 150 شخصاً بالدخول لذلك توقفنا عن استقبال تلك الطلبات لحين إدخال الأسماء القديمة”.
وحول تزوير هذه الطلبات نفى المصدر معرفته بوجود مثل هذه الحالات، مؤكداً أنه حتى في حال وجودها فإنهم لا يملكون الإمكانيات لكشفها.
إجازات مزورة تغلق معابر إنسانية
بعد إغلاق معبري باب الهوى وباب السلامة، لجأت الحكومة التركية لفتح معبر إنساني يُسمح من خلاله للسوريين المقيمين على الأراضي التركية بزيارة عائلاتهم، بشرط الحصول على إجازة رسمية من دائرة الأمنيات في بلدة يلدا الحدودية.
وخلال الأشهر الماضية لجأ مئات السوريين وخاصة العاملين في الشأن الإنساني للحصول على هذه الإجازات والوصول إلى سوريا عبر معبر خربة الجوز الإنساني حيث يُعطى الزائر مدة 45 يوماً يقضيها في سوريا على أن يعود عبر المعبر نفسه قبل انتهاء المدة المحددة.
ويحصل الزائر على ورقة موقعة من دائرة الأمنيات باسمه الموافق لبطاقته التعريفية (الكملك)، إلا أن هذا المعبر أُغلِق قبل نحو شهر تقريباً بسبب اكتشاف حالات تزوير حسبما يؤكده “أبو خالد” العامل ضمن هذا المعبر من الجانب السوري.
وتقوم طريقة التزوير وفق ما يشرح “أبو خالد” على شراء السماسرة لإجازة أحد الأشخاص ممن لا يَودّ العودة، وشراء (الكملك) وبيعِها لشخص آخر شبيه له يرغب بالدخول مقابل مبلغ يصل 1000دولار.
ورغم محاولة مسؤولي المعبر تفادي هذه المشكلة بحسب ابو خالد، إلا أن توسع هذه الحالات دفع السلطات التركية لإغلاقه ريثما يتم وضع آلية أخرى قد تعتمد البصمة الالكترونية لتفادي هذه المشكلة.
ويؤكد أبو خالد أنّ العشرات ممن كانوا يستطيعون زيارة بيوتهم وعائلاتهم ومتابعة أعمالهم حُرموا من الدخول بسبب “جشع بعض المزورين”. مشيراً في السياق نفسه إلى أن البعض من هؤلاء” يعمل جهاراً ويعلن عن خدماته بغياب الرقابة والمحاسبة”.
لا بطاقات للتجار السوريين
للمرة الخامسة ألغت السلطات التركية قبل أيام البطاقات الخاصة بالتجار السوريين لدخول معبر باب الهوى بطريقة نظامية، وطلبت من جميع الراغبين إعادة تقديم أوراقهم الثبوتية إلى مكتب والي المعبر لفحصها.
وكانت تركيا منحت التجار السوريين ممن يملك عقد عمل مع شركات تركية، أو قام بأعمال تجارية من الأسواق التركية وأدخلها إلى الأراضي السورية بمبلغ لا يقل عن 500 ألف دولار أمريكي بطاقات خاصة تسمح لهم بالدخول والخروج من المعبر الرسمي.
وبحسب مصدر خاص لـ صدى الشام في معبر باب الهوى فإن سبب إلغاء البطاقات يعود إلى الأعداد الكبيرة للتجار الحاصلين على هذه البطاقة والذي تجاوز 1500 تاجر. ويرى المصدر أنه من غير المعقول أن يكون هذا العدد الكبير قد استطاع توفير هذه الشروط نظراً للأرقام المالية الكبيرة، لكن بعض الحاصلين عليها زوّرَ أوراقاً رسمية لشركات وهمية في تركيا.
ويشير المصدر إلى أن إدارة معبر باب الهوى من الجانب التركي قررت منحَ هذه البطاقات فقط للتجار الذين يَثبُت إدخالهم الشاحنات إلى سوريا بمبالغ مالية موافقة للمقرر، وشطب جميع البطاقات ممن لا تستوفي هذه الشروط.
مما سبق يتضح كيف أن حاجة السوريين للوصول إلى مكان آمن مع اشتداد وتيرة القصف وإغلاق المعابر دفعهم لتسليم مصيرهم لتجار البشر واللجوء إلى الطرق غير النظامية. لكن ذلك لم يكن ليحدث لولا أن الكثير من السوريين رأوا أن جميع الطرق الآمنة أُغلقت في وجوههم.
صدى الشام