قاعدة طرطوس وعربدة الروس


حافظ قرقوط

تستمر روسيا بتدعيم قواتها البحرية على الشواطئ السورية، وفي عرض البحر الأبيض المتوسط، ولا شك في أن ذلك يجري بمراقبة دقيقة من حلف شمال الأطلسي، الذي يُطالعنا -بين الفينة والأخرى- بتعليق ما حول تحركات القوات الروسية، فقد قال مايكل تورنر، رئيس الجمعية البرلمانية للحلف: “إن روسيا عززت وجودها العسكري وأنظمة دفاعها الجوي في شبه جزيرة القرم، خلال السنتين الماضيتين، ونقلت إلى الجزيرة 40 ألف جندي، واتبعت الأسلوب ذاته في سورية”.

ونقلت وكالات الأنباء عن تورنر قوله: “إن روسيا قدّمت الدعم لبشار الأسد في سورية، وتسببت في مقتل مئات الآلاف من السوريين، منذ بدء الاشتباكات”، وجاء هذا التصريح في كلمة ألقاها أمام الجمعية العامة البرلمانية للحلف، واصفًا روسيا بأنها تسببت “بسقوط مئات الآلاف من السوريين”، ويبدو أن اللهجة التي بدأت تتصاعد من الغرب نحو روسيا، تؤكد امتعاض الغرب، دولًا وحلفًا عسكريًا، من التمدد الروسي، وما كان من مداخلات في مجلس الأمن الدولي، شن -خلالها- سفراء الدول الغربية، وخاصة فرنسا وبريطانيا، هجومًا كلاميًا قويًا على روسيا؛ بسبب الوضع في سورية، في حين أكّدت الولايات المتحدة على أنها ستلاحق مجرمي الحرب في سورية؛ ما دفع نائب المندوب الروسي، فلاديمير سافرونكوف، إلى اتهام الغرب، وخاصة الولايات المتحدة الأميركية، بالتواطؤ، وعدم الحيادية في سورية، وذلك في أثناء إلقاء كلمته في مجلس الأمن، في الجلسة التي عُقدت في 21 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري.

وكان رئيس الجمعية البرلمانية لحلف شمال الأطلسي، مايكل تورنر، قد أشار في كلمته، إلى أن روسيا “ألحقت شبه جزيرة القرم الأوكرانية، وانتهكت بذلك حدود دولة أوروبية بالقوة، لأول مرة منذ 70 عامًا”، طالبًا من الحلف أن يزيد من قوة الرّدع والدفاع، ومن تعداد وحداته في البلطيق، وأضاف، رابطًا الصورة ببعضها بعضًا، أن التهديدات الروسية “تتواصل على الجناح الشرقي للحلف، بينما نقدّم الدعم لجنودنا في العراق، ودعمًا جويًا للتحالف الدولي ضد (داعش)، ونعمل في البحر المتوسط، ومع شركائنا في الاتحاد الأوروبي”، فاتحًا الطريق إلى الدول الراغبة في الانضمام إلى الحلف، للعمل على ذلك، وهذه هي الرسالة الأهم لروسيا؛ حيث نها تعدّ الحلف يقترب من حدودها في شمال شرق القارة الأوروبية.

روسيا -في المقابل- تعلن على لسان مسؤوليها عن توسيع قاعدتها العسكرية في طرطوس، فقد نقلت وكالات الأنباء الروسية، عن فيكتور أوزيروف، رئيس لجنة مجلس الاتحاد الروسي لشؤون الدفاع والأمن، قوله: “سنبني قاعدة بحرية متكاملة في طرطوس، بعد عام ونصف أو عامين من توقيع الاتفاقية التي يمكن توقيعها لمدة 49 عامًا”، مستبعدًا ما تناقلته وكالات الأنباء -سابقًا- حول أن الاتفاقية ستوقع لتكون دائمة، بقوله: “من الوارد أن الاتفاقية لن توقع إلى أجل غير مسمى”، ونقلت وكالة نوفوستي عن أوزيروف قوله: إن القاعدة العسكرية البحرية في طرطوس يمكن أن تصبح قاعدة متكاملة للأسطول البحري الحربي الروسي”، كما ذكرت وكالة أنترفاكس أن وزارة الدفاع الروسية “توسع القاعدة الروسية في ميناء طرطوس، وأنها دفعت بتعزيزات إضافية إلى القاعدة”، وأضافت أن الوزارة “أرسلت التعزيزات، دون انتظار وثيقة بتوسيع القاعدة”.

يُشار إلى أن نائب وزير الدفاع الروسي، نيقولاي بانكوف، قد صرح في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي بأن وزارة الدفاع الروسية تنوي إقامة قاعدة عسكرية دائمة في ميناء طرطوس.

يبدو أن روسيا لا تريد الاعتراف بالموقف الذي آلت إليه الأمور، سياسيًا وعسكريًا، بعد تدخلها المباشر في سورية، ومن الواضح أن البرودة السياسية الغربية في التعامل معها، وردود الفعل البطيئة، والتي لا تتعدى التصريحات الإعلامية، دون مساومتها على مكاسب، وخاصة في العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها؛ بسبب تعاملها مع الملف الأوكراني، مع السماح بتمرير بعض الدعم العسكري للمعارضة السورية المقاتلة، ولكن بنوعية أسلحة تسمح بإطالة أمد المعارك، ولا تسمح بتحقيق انتصارات حاسمة، وهو ما عدّه بعضهم توريطًا لروسيا بحجم أكبر في الملف السوري، ودفعها لكشف الأوراق التي من الممكن أن تستعملها في أي نزاع إقليمي، وقدرتها على المناورة العسكرية؛ ليظهر أنها تملك أسطولًا بحريًا مترهلًا، قياسًا على ما يملكه الغرب، وبالذات الولايات المتحدة الأميركية، كذلك اتضح أن مساحة المناورة السياسية لديها محدودة، وهي تحاول الاستثمار في قرارات قتالية عشوائية في سورية، تحتاج إلى ميليشيات إيران على الأرض لتدعيمها، وبالنتيجة، فهي لا تستطيع الادعاء بأنها أحرزت نتائج ميدانية، سوى انتصارات وهمية، على حدّ تعبير المبعوث الأممي، ستيفان ديمستورا، وهي ما يمكن عدّها انتصارات على أرض محروقة بطريقة الإبادة، وهذا ليس انتصارًا بالمعنى الاستراتيجي.

وجود القوات الروسية -لأول مرة- بهذا الحجم في البحر المتوسط، سيجعل القارة الأوروبية تعيد حساباتها السياسية والعسكرية، بل والاقتصادية؛ فهذا الحوض من المياه الدافئة، هو الحوض الذي يشكل شريان الحركة البحرية الأوروبية، وأيضًا الجوية نحو الجنوب والشرق، ومن المستبعد أن تسمح هذه الدول باستمرار العربدة الروسية في هذا البحر إلى ما لا نهاية، والقاعدة العسكرية البحرية الروسية في طرطوس، والتي تحتاج نحو عامين لتوسعتها، بحسب التصريحات الروسية، علينا أن نقرأ ما قاله مايكل تورنر حول عمليات الحلف بالعراق، وضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وعن حركة الحلف بالمتوسط، وهي كلمات موجهة توجيهًا مباشرًا إلى روسيا.

لكن إن كانت مصالح الدول متشابكة ومتعددة، وهي غير محددة بفترة انتهاء صلاحية، فمن العار أن توضع الشعوب في محرقة المصالح تلك، وإن ما يدفعه الشعب السوري من ثمن، كان بالأساس لأجل الانعتاق من نظام استبدادي ظالم، ولم يكن في حسبان هذا الشعب، أن العالم سيبني شبكة ابتزاز من نوع آخر، بلا ناظم أخلاقي، ترتوي من دماء الأبرياء؛ لتنسج خيوط مصالح انتهازية، لا علاقة لصاحب الأرض وصاحب الدم بها، فإن تحملّت روسيا المسؤولية المباشرة عما تقترفه بطيرانها من جرائم، أو بدعمها للنظام، فإن الغرب يتحمّل مسؤولية أخرى بوضعه العربة أمام الحصان؛ ما أدى إلى اختلال المعادلة، ودخول سورية وشعبها في نفق مظلم، تبحث في نهايته عن شعاع ضوء، يحمل قليلًا من الأمل في أن الإنسانية ما زالت بخير.




المصدر