قضية المرأة: العنف وإعادة إنتاج الهيمنة


مضر الدبس

يستند الوعي القابع خلف سلوكنا بالمرأة إلى تنشئة اجتماعية سابقة، ومتعالية على الوعي الفردي؛ ما يضطرنا إلى العودة إلى نقطة منهجية أولية وضرورية؛ من أجل مقاربة أكثر موضوعية، وهي أهمية تجاوز ذهنية العادات السائدة، والسابقة على وجودنا كأفراد، والتي تجعل من الهيمنة الذكورية سلطة مُنوِّمة، تشبه السحر؛ من أجل الوصول إلى أحكام دقيقة وموضوعية، تحمل تجديدًا نحو الأفضل. وبمعنى آخر، يستوجب منهج السعي خلف الحقيقة -في مثل هذه القضايا- ثورةً معرفيةً على مسلماتنا الموروثة عبر التاريخ والتراث، وجهدًا معرفيًا، وجهادًا ضد النفس، ينتزع من بنيتنا المعرفية الموروثة -كأشخاص- صفةَ المرجعية المقدسة، ويضع مرجعياتنا ومنطلق تفكيرنا -في هذا الموضوع- مَوضِع نقدٍ، بدلًا من أن تكون قاعدة انطلاق. ما إن يتمَّ إنجازُ هذا الاستعداد الفكري؛ حتى نصل إلى استنتاجٍ مفاده: أن الكلامَ في حقوق المرأة غيرُ الكلام في حريِّتها؛ فإذا كان الأول مطلب حقوقي في مجتمعات تضطهدُ المرأةَ، ولن تستفيد من تَحققهِ إلا المرأة، فإن الثاني مطلب إنساني، يستفيد من تحققه الإنسان: رجالًا ونساء، وبالتالي؛ فإن الكلامَ عن حرية المرأة كلامٌ عن حرية الرجل، وعن حرية المجتمع بكليته، ذلك؛ لأن الامتياز الذكوري -في مجمله- فخٌ ينتقصُ من معاني الرجولة، كما ينتقص من معاني الأنوثة. وإن انهيار الهيمنة الذكورية لا يعني أن يعطي الرجل للمرأة حقوقها، ويتفاخر بـ “نظرته المتحررة” إليها، بل يعني نسف البُنى الاجتماعية المتوارثة نسفًا ببغائيًا، تلك البنى التي تُشرعنُ لهذه الهيمنة تعسفًا. وعند نسفها وانهيار منظومة الهيمنة الذكورية، يحصل الرجال والنساء -سواسية- على أحد أهم مكامن حريتهم كأفراد، حيث يتحرر واحدهم من استبداد الجماعة والتاريخ الرمزيين، ذلك؛ لأن المقاربة على مستوى فلسفة الحرية تُخبرنا أن الهيمنةَ تُحدِثُ ضررًا في حرية الرجال، يوازي ويساوي الضرر التي تحدثه في النساء.
مرَّت الهيمنة الذكورية في مجتمعاتنا بعمليات إعادة إنتاج تاريخية مستمرة، ولم تتوقف حتى الآن، وأنتجت -عبر سيرورتها- أشكالًا من العنف المادي ضد المرأة، وكان الأخطر إنتاجها أشكالًا متعددة من العنف الرمزي ضدها؛ أدت -هذه العملية- إلى فرض أدوات المعرفة ذاتها على الجميع، وبطبيعة الحال، هي أدوات المجتمع الذكوري المُهَيمِن التي تمثّلتها المرأة ضحيةً للهيمنة، لا خيار لديها عمومًا؛ ما أفضى إلى تطبيع هذه الهيمنة الذكورية، وعدم السعي إلى التساؤل حول أسبابها، وعدم الاهتداء إلى أهمية هذا التساؤل، بل -عوضًا عن ذلك- بررناها دائمًا، وأخذناها ظاهرة طبيعية بديهية، شأنها شأن الحقائق العلمية المجردة التي لا تحتاج إلى برهان؛ هذا النوع من التبرير المنطلق من الأرضية المعرفية التي يتبناها ويحتكرها وينشرها المُهيمِن، ليست إلا تعزيزًا لإعادة إنتاج الوهم، وتزويرًا اجتماعيًا للبيولوجيا، أي: الاستقواء بالطبيعة الفيزيولوجية؛ لتبرير فعل الهيمنة الاجتماعي وتطبيعه. ومن جملة ما أدى إليه هذا الاستقواء تداول المرأة في “سوق الرجولة الرمزي”، غير المرئي، الذي يسعى الجميع -من خلاله- لمراكمة رأس المال المعنوي، وهو “الشرف”، ولكن ضمن إدراكٍ مُزوّر لمفهوم الشرف، يغلب عليه الطابع الجسدي الجنسي، ويخفي القيم الإنسانية الجمالية. إن هذه منظومة وهم عميق متكامل، تأصّل عبر التاريخ، وهمٌ يسكن البنية المعرفية للذكور والإناث، ويجعل الهيمنة -بأشكالها المتعددة- تبدو وكأنها طبيعية؛ فالجسد بالإدراك مبنى اجتماعي، ومن هنا يُقال: “الرجل لا يعيبه شيء”، فيما المرأة إما لا يجب أن تظهر؛ لأن جسدها يُدرَك اجتماعيًا كـ “عورة”، أو يتوجب عليها المبالغة في التزين والظهور بمظهر جميل “أنثوي” أنيق؛ لأن الجسد -في هذه الحالة- تدركه الأنثى من نظرة الآخرين إليه. هذا هو “السجن الرمزي” والعنف الرمزي الناتج عن استبدان العلاقات الاجتماعية.
خضعت المرأة لهذا المنطق الذي يبرره الجميع، بوصفهم إياه (فهمًا بديهيًا)، فيما هو -في العمق- مازال فهمًا بدائيًا يستمر دون مراجعة، وتضمن سكونه آلية معقدة لإعادة إنتاج الوهم. ونجد في هذا الخضوع أثرًا خاصًا للعنف الرمزي الذي يمارسه الجميعُ ضد الجميع، فلا يربح أحد، لكن يخسر الإنسان من حيث يتوهم أنه ربح الشرف والكرامة، غير مدركٍ أن هذا التزييف قد أعاق تطوّر إدراكنا العقلي والإنساني لهذه المفاهيم، على المستويين: الفردي والاجتماعي، ووَضعنَا أمام واقع سيئ صعب الإصلاح: بين مُهيمنٍ مُتسلّط، وفي أحسن أحواله “واهب للحقوق”، بحسب ما يصف نفسه، وبين مضطهداتٍ خاضعات خضوعًا محسوبًا وإراديًا وحرًا، والأهم أنه مفتونٌ بالبنية المتيبسة الراسخة التي تفرض الهيمنة باسم الأخلاق والتابوهات باسم الشرف، وتستطيع إعادة إنتاج نفسها من داخل تركيبتها الفكرية، ومن دون أن نشعر دخلت في تراكيب جينات الإنتاج الفكري في مجتمعاتنا، كالأسرة، والمدرسة، والمؤسسة، والأنظمة السياسية، والعادات الاجتماعية التي توصف بالأصيلة؛ ما يُحتّم علينا إعادةَ النظر في تكوين جيناتنا الاجتماعية، ومراجعة أكثر مفاهيمنا الاجتماعية قداسةً، بحيث لا نقف عند فكرة أو ظاهرة أو ممارسة، متناسين أهمية النقد المستمر في الارتقاء بالمفاهيم، هذا الارتقاء الذي من شأنه أن يُقرّبنا من الطبيعة الإنسانية أكثر.
أخيرًا، ليس العنف ضد المرأة، بنوعيه: المادي والرمزي، إلا منظومة تسلطية استبدادية، يتطلب إسقاطها ثورةً ضرورية لتحقيق أهدافنا الاجتماعية والسياسية؛ من أجل بناء الوطن والإنسان.




المصدر