on
نساء الثورات والحروب
منير شحود
تعدُّ مشاركة المرأة في الفاعليات المجتمعية المختلفة من أهم مقاييس التقدم الاجتماعي، سواء في فترات الاستقرار، أم في أثناء التحولات التاريخية الكبرى. أما في الحروب والنزاعات العنيفة، التي تُعدُّ، وبدرجةٍ كبيرة، امتدادات للثقافة الذكورية وعدوانيتها، فغالبًا ما تتعرض مكتسبات المرأة، إن وُجدت، لانتكاساتٍ خطِرة. هذا ما حدث حين تحوّلت الانتفاضات والتظاهرات إلى أعمال مسلحة في ليبيا واليمن وسورية، فتراجع دور النساء تدرّجًا، وتقلصت من جديد فرصهنّ في التحرر من ربقة التقاليد الاجتماعية الظالمة.
خرجت المرأة إلى جانب الرجل في التظاهرات السلمية ضد الأنظمة العربية المستبدة فيما أطلق عليه “الربيع العربي”، وبما يتناسب طردًا مع وجود آفاق تنويرية سابقة يمكن البناء عليها، وهكذا كانت النساء التونسيات في الطليعة؛ بسبب تمتعهن بحقوق عديدة منذ إصدار قانون الأحوال المدنية، عام 1956، في عهد الرئيس بورقيبة، حيث حققت المرأة درجة متقدمة من التحرُّر والمساواة القانونية مع الرجل. كما شاركت النساء اليمنيات مشاركة لافتة في بلدٍ معروفٍ بتقاليده المحافظة.
شاركت المرأة السورية -أيضًا- في المظاهرات السلمية، وساهمت في الفاعليات المختلفة للثورة، سواء على صعيد الكلمة أو الفعل، بما في ذلك المشاركة في عمل التنسيقيات، أو تقديم الدعم اللوجستي على الأرض. ومع استعار نار الحرب، شاركت النساء في أشكال الدعم المختلفة، وحتى في القتال على الجبهات، وبخاصة المرأة الكردية. وكانت تلك المساهمات فرصة النساء للمشاركة في ميادين كانت شبه مقتصرة على الرجال.
من جهة أخرى، عانت المرأة السورية من ويلات الحرب على نحوٍ استثنائي، وتعرّضت لأشكال شتى من العنف؛ من قتل وتهجير واعتقال واغتصاب وسبي واستغلال جنسي، كما وقعت على كاهلها أعباء إضافية، مثل رعاية الجرحى والمعوقين، وإعالة الأسرة في كثير من الحالات، وستستمر هذه المعاناة لسنوات عديدة بعد انتهاء الحرب، وربما لعقود.
في غضون ذلك، شكلت الثورة المضادة على القيم والحقوق التي خرج السوريون من أجلها، عام 2011، مؤشرًا سيئًا، للمرأة على نحو خاص، وكان اختطاف المحامية رزان زيتونة ورفاقها، بتاريخ 9/ 12/ 2013، في مدينة دوما، بعد أن هُددت أكثر من مرة، من أهم مؤشرات تقهقر الفاعليات المدنية السلمية، وابتلاعها من أعداء الحرية الجُدد.
اكتسبت رزان رمزيتها؛ حتى قبل اندلاع الاحتجاجات، من خلال عملها في توثيق انتهاكات حقوق الإنسان، والدفاع عن المعتقلين. سمعت مرة أحد السجناء السابقين يناديها: “أمّي” مع أنّه يكبرها بعشر سنوات على الأقل، ذلك؛ لأنها كانت تزوره في السجن، وتحمل إليه الحاجات الضرورية؛ إذ لم يكن يزوره أحد من ذويه.
تُقاس أهمية التحولات الاجتماعية الكبيرة -أيضًا- بما يمكن أن تقدمه للمرأة على صعيد تحررها الاجتماعي، ومساواتها الحقوقية بالرجل، لأنّ ذلك يمثل الاتجاه التاريخي في التطور البشري. ولو طبقنا ذلك على التحولات التي تحدث في مجتمعاتنا حاليًا، لرأينا أنّ ثمة انتكاسة موقتة؛ بسبب أوضاع الحرب، وانتشار الأفكار الدينية المتطرفة التي تنال -أكثر ما تنال- من المرأة وحريتها، لكنّ فترة ما بعد الحرب قد تحمل مكتسبات كثيرة، بحكم الضرورة، والحاجة الماسة لدور المرأة في عملية إعادة البناء.
إنّ أي انتقاص لحقوق المرأة هو شكل من أشكال العنف أيضًا، بما في ذلك حرمانها من الإرث، واستغلالها في المنزل وأماكن العمل، وحيث ينتشر الفقر والجهل تكون معاناة المرأة على أشدّها، خاصةً في غياب، أو ندرة، آليات فاعلة للمساعدة، سواء أكانت رسمية، أو من منظمات المجتمع المدني. ولا يقتصر الظلم على المرأة الفقيرة فحسب، إنما يطال -أيضًا- المرأة في البيئات الميسورة، والتي يجري تقييد حريتها وخياراتها؛ بحجة السمعة والتقاليد، ولتتحول أحيانًا إلى مجرد دمية مستعبدة ومغلّفة بالترف. يبدو أنّه كلّما صعدت المرأة درجة على سلَّم انعتاقها، كان الرجل يرمي عليها شبكة ثقافة المجتمع وتقاليده، التي هي ثقافته ورغباته هو!
ومع أنّ سورية تحولت إلى ساحة للدموع والأحزان، وتلفّعت النساء فيها بالسواد، فما زال ثمة أمل وضرورة لأن تعود النساء -بعد الحرب- إلى ساحات البناء النابضة بالحياة، وهنّ اللواتي يبدعن في تدبير الحياة وإنتاجها أيضًا. سيقود ذلك -على الأرجح- إلى حصول المرأة على مكاسب مهمة، بقدر أهمية الدور الذي يمكن أن تؤديه في إعادة الحياة إلى ما دمرته الحرب. بيد أن ذلك مشروط بالتشريعات التي تضمن حقوق النساء، ومقدرتهنّ على النضال من أجل هذه الحقوق في سورية المستقبل، والتي يُفترض أن تكون دولة القانون والمواطنة.
تحمّلت المرأة في بعض البلدان الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، بخاصة في البلدان التي طالها كثير من التدمير، كألمانيا على سبيل المثال، العبء الأكبر في إعادة بناء ما دمّرته الحرب، وبالتوازي مع ذلك، تحققت لها مكاسب كثيرة، حقوقية واجتماعية.
مقارنة ما سيكون عليه دور المرأة السورية بالدور الذي كانت تؤديه المرأة الأوروبية يحمل مجازفة كبيرة؛ بسبب المعوقات الاجتماعية التي قد تعيق انطلاقة المرأة في بلادنا، ولكنّ تشابه الأوضاع يدفعنا إلى تخمين أهمية الدور الذي ستؤديه النساء السوريات في المستقبل.
في نهاية المطاف، لن تبقى سورية، ولا باقي بلدان المنطقة، بعيدةً عن أوجه التقدم الاجتماعي، المحمول على سكّة التطور التقني المُتسارع، والذي ستأخذ فيه المرأة كثيرًا من حقوقها، وتتخلّص من مظالم شتّى، كبّلتها على امتداد تاريخ طويل.
المصدر