الحرية المخطوفة منذ عقود


تهامة الجندي

هل بقي حق من حقوق المرأة السورية لم ينتهك بعد؟ هل يوجد شكل من أشكال العنف لم يُمارس عليها؟ معتقلات ومخطوفات ورهينات، شهيدات تحت التعذيب، وبرصاص القنص أو القصف العشوائي، مغتصبات وقتيلات لغسل العار، أرامل وأمهات ثكالى، نساء يمتن من الفاقة والبرد ونقص الدواء، وأخريات يتعرضّن للابتزاز، وقاصرات يُرغمّن على الزواج. وهنّ لسن أرقامًا وشهاداتٍ في ذمة تقارير المنظمات الحقوقية ووسائل الاتصال، إنهّن معظم النساء السوريات.

ومن يتابع الوثائق والأرقام، سيلاحظ أنها منقوصة ومتضاربة في بعض الأحيان، لا تعكس -بدقة- حجم الكارثة الإنسانية التي تعيشها المرأة السورية، فأغلب المنّكوبات مضّطرّات للصمت، تارة خشية النظام الحاكم والجماعات التكفيرية، وأخرى خوفًا من أعراف المجتمع الذكوري، وتجار البشر. لكن الشهادات التي جُمعت، ووُثقت، وأثبتَ صحتها أطباء وحقوقيون مختصون، كافية لإدانة الجناة، أيًا كانوا، وأينما وجدوا، ومع ذلك؛ لم يُحال أي منهم إلى القضاء، فيما تتعرض أغلب اللاتي أدلين بشهادتهنّ للتشهير والعزل الاجتماعي، ولأعمال انتقامية، تصل -أحيانًا- حد القتل.

بحسب “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، بلغ عدد سجينات الرأي السوريات أربعين ألف معتقلة، العام الماضي، معظمهّن من الشابات، وبعضهنّ متقدمات في السن، وأخريات لم يبلغن سن الرشد، تعرضّن للتعذيب والاغتصاب، لاشتراكهنّ في المظاهرات السلمية فحسب، أو لنشاطهنّ في أعمال الإغاثة الإنسانية، وإسعاف المصابين. بعضهن عُذّب بقصد العطب مدى الحياة، وأخريات قُتلّن تحت التعذيب، فيما يجري تصوير الاعتداءات الجنسية، لابتزاز الضحية بعد خروجها من السجن، وتُصاب واحدة من كل عشرين معتقلة بمرض عُضال، لسوء شروط السجن.

ليس وحده شبح الاعتقال والخطف، من يحوم حول المواطنات السوريات؛ بسبب، ومن دون سبب، فمع تدهور الأوضاع الأمنية، وموجات النزوح الجماعي، فقدت كثيرات مصدر رزقهنّ، وباتت البطالة واحدة من المعضلات التي تهدد حياتهن بكل أشكال العوز والابتزاز. في مناطق النزاع، تعاني أغلب النساء الجوع اليومي، وبرد الشتاء، يفتقدن الكهرباء، يشربن المياه الملوثة، يلدن في العراء، ويُصَبن بإعاقات جسدية ونفسية مستديمة، من جراء الإهمال والقصف والقنص والرعب. وفي أماكن اللجوء، عدد كبير من الناجيات بلا عمل، يعشن على الصدقات والمعونات الإنسانية، وأحيانا يضطررن إلى التسوّل؛ لتأمين قوتهنّ اليومي، ومنهنّ من تتعرض للتحرش الجنسي، والعنف والزواج بالإكراه.

كان العنف الأسري والتمييز الاجتماعي، بالتقاطع مع الاستبداد والفساد، وتدني مستوى المعيشة، هو ما دفع بأعداد كبيرة من نساء سورية إلى الانخراط في الثورة، لكن مشاركتهن لم تبدد معاناتهنّ، بل فاقمتها، ليس في مناطق سيطرة النظام فحسب، بل –أيضًا- في المناطق المحررة، التي كان من المفترض بها، أن تشكل حاضنة آمنة للناشطات، ونواة للمجتمع المدني؛ فقد شهدت أماكن نفوذ بعض الجماعات الإسلامية المتطرفة، انتهاكات خطِرة، بذريعة تطبيق أحكام الشريعة، من فرض الحجاب، و”نكاح الجهاد”، وسبي النساء، واختطاف الناشطات، وغيرها من الممارسات العنيفة التي كان من السهل إبطالها وفق مبدأي: “لا ضرار ولا ضرار في الدين”، و”التخلي عن الحلال ليس حرامًا في الشريعة”.

ليست المدوِّنة طلّ الملوحي، المعتقلة الأولى في سجون النظام، ولن تكون الأخيرة، ما يميز تجربتها، أنها اعتُقلت قبل عامين من اندلاع الثورة، ولم تكن قد تجاوزت عامها السابع عشر، أي أنها كانت بحكم القاصر، وكانت تستعد لامتحانات الشهادة الثانوية، ومع ذلك؛ دخلت أقبية الزنازين، وتعرضت لصنوف شتى من التعذيب، وحين بلغت سن الرشد، أُحيلت إلى محكمة “أمن الدولة” التي قضت عليها بالسجن لخمس سنوات، بتهمة “التجسس لصالح دولة أجنبية؛ لقاء مبالغ مالية”، في شباط 2011.

طل الملوحي

وكلنا يعرف أن هذه القضية الغامضة، أثارت حفيظة الرأي العام العالمي، ومنظمات حقوق الإنسان، وشهدت بعض العواصم العربية والأوربية وقفات احتجاج على اعتقالها، بينما وقّع أكثر من أربعة آلاف شخص على بيان حملة “أفرجوا عن طلّ الملوحي”، ولم يُفرج عنها حتى اللحظة، مع أنها أنهت محكوميتها، بل إن المحامي خليل معتوق، الذي تبرع بالدفاع عنها، يقبع في السجن منذ عام 2012.

الفنانة سمر كوكش، خريجة المعهد العالي للفنون المسرحية عام 1995، التي شاركت في كثير من الأعمال الدرامية في المسرح والسينما والتلفزيون، وعملت في الدبلجة؛ سمر ساعدت طفلة على الخروج من حصار المعضمية، وعلى إجراء جراحة عاجلة لها، كما أوضح الزميل محمد الزيبق، وفي إثر ذلك، اعتقلتها أجهزة الأمن السورية، في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2013، وأودعتها الفرع (215) المعروف بوحشيته، قبل أن ترّحل إلى سجن عدرا المركزي، ويصدر الحكم بحبسها خمس سنوات بتهمة “تمويل الإرهاب”.

سمر كوكش

الكاتبة والناشطة رزان زيتونة، صورة مشرقة من صور كفاح المرأة السورية، بدأت مهنتها محاميةً في الدفاع عن المعتقلين السياسيين وسجناء الرأي، وشاركت في تأسيس “جمعية حقوق الانسان”. نشرت مقالات وتقارير كثيرة، حول انتهاكات حق الرأي والتعبير في سورية، وفي عام 2005، أسست موقعًا إلكترونيًا خاصًا بانتهاكات النظام، اِضافة اِلى عملها في لجنة دعم عائلات المعتقلين السياسيين.

984ef2aa-04a3-4847-9873-4662788d279b_4x3_690x515

مع بداية الثورة السورية، أسهمت رزان في تأسيس “لجان التنسيق المحلية”، وفي إثر ذلك، اقتحمت المخابرات الجوية منزلها في دمشق، وصادرت كثيرًا من أوراقها ومقتنايتها الشخصية، وخطفت شقيق زوجها، رهينةً عنها وعن زوجها، الذي خُطف بعد أيام، وقضى ثلاثة أشهر في الحبس الإنفرادي.

رزان زيتونة، أيقونة الثورة السورية، الحاصلة على جائزتي “آنا بوليتكوفسكايا” و”ساخاروف”، التي استطاعت أن تضلل عيون الأمن، وتنتقل إلى الغوطة الشرقية المحررة، وتفتتح في دوما مركزًا إعلاميًا لتوثيق جرائم النظام، وإرسالها إلى قنوات الاتصال. رزان اختطفتها جماعة تابعة لـ “جيش الإسلام”، من المركز الإعلامي، في التاسع من كانون الأول/ ديسمبر 2013، ومعها اختطفت زوجها، وائل حمادة، وسميرة الخليل، وناظم حمادي، ولا يزال مصير الأربعة مجهولًا حتى اليوم.

وسيرة الناشطة سميرة الخليل في دوما، ترسم ملامح الحرية المخطوفة في سورية منذ خمسة عقود، هناك أمضت أربع سنين في سجن النساء، بوصفها معتقلة سياسية شيوعية، بين عامي 1987و1991. وحين اختُطفت كانت تعمل على توثيق الجريمة، ومساعدة المحتاجين، وتدوين ملاحظاتها في البلدة المنكوبة، ملاحظاتها التي صدرت -أخيرًا- في كتاب “يوميات الحصار في دوما 2013″، من تقديم وتحرير زوجها المعتقل السابق، ياسين الحاج صالح.

000

في الخامس والعشرين من تشرين الثاني، نوفمبر، من كل عام، يقول العالم: “لا للعنف ضد المرأة”، ويطالبنا الضمير الحي، أن نبذل كل جهد لإنقاذ آلاف المعتقلات والمخطوفات والمعنفات في سورية؛ فليس من العدل أن تذهب عذاباتُ السوريات ودماؤهن في مهب الريح، وأن يُرغمن على العودة إلى بيوت الطاعة. مناهضة العنف والتمييز ضد النساء، ليست قضية ثانوية في الثورة، إنها من صلب معركة التغيير الجذري في المجتمع الذكوري؛ لأنها تعني الإصلاح الديني والسياسي، المساواة الاجتماعية وحقوق الإنسان.




المصدر