امرأة من الحصار… قصّة حياة
24 نوفمبر، 2016
آلاء عوض
هي حكمةٌ في الخلق والتكوين أن جعل المرأة قادرة على تحمُّل آلام جمّة، وبثِّ الروح والأمل في كل مكان تحلّ فيه، فتجرّع آلام الحمل والولادة مكّناها من السكوت عن كل الأوجاع الأخرى، لذلك؛ كان لوجودها في محطّات العجز ولحظات اليأس مفعولًا مسكّنًا، ولأن النساء لا يملكن حرية قرارتهن، كنّ مضطراتٍ للبقاء في منازلهن، وارتبط مصيرهن بحكمٍ جائر منعهن من الحركة، فكنّ في الحصار كثرة.
منذ بداية فرض الحصار تنوّعت مهمات النساء اللاتي نشطن في مجالاتٍ شتى، فكان لهن الدور البنّاء في تعليم الأطفال ودعمهم نفسيًا، إضافة إلى تمكين النساء عبر تعليمهن مهنة، خاصة المعيلات لأسرهن، وصولًا إلى المجال الإغاثي الذي برزت الحاجة الماسة إليه في عقب اشتداد الحصار ونفاد المواد الغذائية والطبية.
لم تكن الناشطة منتهى عبد الرحمن، القاطنة في بلدة مضايا المحاصرة، تُدرك النتائج المترتبة على قرارها الذي أخذته بمشاركة الرجل في النضال الثوري، لكنها -بفطرتها- كانت تشعر أنه الخيار الصائب، فمشت وراء حدسها، وبدأت عملها الدؤوب، كغيرها من النساء، في رحلة البحث عن ذاتها الأنثى وكرامتها، ومنذ الأيام الأولى للثورة، نظّمت وصديقاتها مظاهرات نسائية عديدة ومظاهرات أطفال، وتعرّضت في إثرها للاعتقال أكثر من مرة، وفي كل مرة كانت تخرج فيها، تُعقّد المهمّة، وبحسب قولها لـ (جيرون): “فإن المجتمع بعد تجربة اعتقال الفتاة يعارض عملها أكثر، ويصبح متزمتًا برفضه لنشاطها، خوفًا من تعرضها للأذية، التي غالبًا ما تترافق بكلام سيئ وسمعة ليست بحسنة”.
لم تأبه (عبد الرحمن) للرفض كله، وحاربته بالحجّة والعمل، فأسست مع مجموعة من صديقاتها الناشطات مجلة (أوكسجين)، وتجمّع (ضمة) النسائي الذي يسعى إلى تمكين المرأة معرفيًا واقتصاديًا، وتخفيف آثار العنف الممارس عليها، وهي لا تزال -إلى اليوم- تعمل غير مكترثة بكل النقد.
حقوق مُستباحة
أسهم النظام، بسلبيته المفرطة تجاه قضايا المرأة أولًا، وبمصادقته على تهميشها ثانيًا، بتطوير جميع مظاهر التخلّف في المربّعات الاجتماعية السورية التي هيمن عليها قالب التقاليد والأعراف البالية، وكان للقمع الذي مورس على الطائفة السنيّة التي تُشكّل أكثرية سوريّة، سببًا في الردة الدينية التي طغى عليها التعصب تجاه قضايا المرأة خاصة، من منطلق أن الحقوق والحريات والأعراض لا حامي لها إلا الله.
وبحسب تعبير عبد الرحمن، فإن المجتمع الريفي جارَ على المرأة كثيرًا، فحُرمت في البلدات والقرى الريفية من التعلّم والعمل، ومن الاختلاط بالرجال، وبالتالي؛ من المشاركة في أي نشاط، والأهل محكومون بالخوف من السمعة المُشينة التي ارتبطت بالنساء، وتابعت عبد الرحمن أنها حاربت التسلّط المجتمعي بما أوتيت من قوة، ولم “أُعر انتباهي لما يقال، وكنت مصرّة على العمل وشجعتُ الكثيرات على المشاركة، هذه ثورتنا، ولن نقبل بأن نكون دمى يحركها المجتمع والنظام الفاسد، وبدافع إنساني وفطري، سنثبت أن الثورة هي ليست ثورة رجال، فالمرأة حضرت في كل الثورات، نظّفت جروح المقاتلين وعقمتها أثناء الحرب، وشيّدت بنيان المجتمع بعد انتهائها”.
وترى عبد الرحمن ان وجود بعض فصائل المعارضة المسلّحة التي تسعى لتحجيم المرأة وإقصائها عن الحراك الثوري واتهامها بالقصور، زاد من تعقيد المشهد، على أملٍ نهاية الصراعات بين الفصائل الثورية، واعترافهم بنا كعنصر أساس في الثورة”.
بضعُ كلماتٍ وزفرات تفوّهت بها لتختصر معاناتها العميقة “تمرّ لحظات أشعر فيها بالتعب” تضيف عبد الرحمن، الأنثى التي عاشت وتعيش تجربة الحصار بكل تفاصيلها وأوجاعها، وتابعت “هذا الشعور لا يدوم، ويتلاشى فور خروجي إلى الشارع، لأرى أمًّا تحمل ابنها المريض باحثة عن دواء مسكّن، وأبًا يبحث عن القليل من الحليب؛ ليطعم ابنه الجائع، في تلك اللحظة، تتفجّر بداخلي طاقة لا أعرف مصدرها، فأركض مندفعة لمساعدتهم، وأنسى أنني بحاجة للطعام والدواء كحاجتهم له وأكثر”.
لا شيء يخفّف معاناة الحصار إلا العاطفة، هذه العاطفة التي عيّرت بها المجتمعات المرأة، واتُهمت لأجلها بنقص العقل والدين، ولكن الناشطة عبد الرحمن، ومثلها كثيرات، أثبتن أنهن يتمتعن برجاحة عقل توازي العاطفة، وأنهن قادرات على إنجاب الأمل والحياة كقدرتهن على إنجاب الأطفال وأكثر.
[sociallocker] [/sociallocker]