تحولات حزب البعث في سورية

24 نوفمبر، 2016

جيرون

حُكِمَتْ سورية لخمسة عقود باسم حزب البعث، ولكن معظم السوريين لا يعلمون كثيرًا عن تاريخ هذا الحزب وتحولاته ومآلاته. فكل من هو دون الـستين من عمره، لا يتذكر سوى حزب البعث في السلطة، وكل من هو دون الخمسين من عمره، لا يتذكر سوى الأسد رئيسًا لسورية. لذلك؛ نود -هنا- تقديم فكرة موجزة لغير المختصين عن أحد جوانب حزب البعث العربي الاشتراكي.

قيام البعث

كان تأسيس “حزب البعث العربي”، ولم تكن صفة الاشتراكية قد الصقت به بعد، نتاجًا لنشاط مثقفين دمشقيين هما ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، اللذان درسا في فرنسا وعادا إلى سورية عام 1933، وبدآ بنشر أفكارهما عن القومية العربية. وبعد عدة مراحل أعلن عن تأسس حزب البعث رسميًا في السابع من نيسان 1947 في مقهى الرشيد بدمشق. اتسم المؤسسون بأنهم من طبقات وسطى مدينية متعلمة، فإضافة لعفلق والبيطار الدمشقيين كان من بين المؤسسين جمال الأتاسي من حمص، والدكتور فيصل الركبي من حماه، والدكتور أديب الأصفري من إدلب، والدكتور وهيب الغانم من اللاذقية، وجلال السيد من دير الزور، وعبد الحليم قدور من قارة، ومنصور الأطرش من السويداء وغيرهم. وقد كان حزبًا إصلاحيًا في دعواته وبرنامجه، ولم يكن توجهه اشتراكيًا راديكاليًا، وكان يدعو لإعادة أمجاد العرب عبر وحدتهم، وبعث الأمة العربية، تأثرًا بموجة صعود الفكر القومي في أوروبا.

بقي الحزب حزبًا صغيرًا محدود التأثير حتى أواخر عام 1952، حيث اتحد “حزب البعث العربي” مع “الحزب العربي الاشتراكي” ذي الطابع الفلاحي الذي يقوده الشخصية الكارزمية السورية أكرم الحوراني، وأصبح اسم الحزب الجديد “حزب البعث العربي الاشتراكي”، ولكن بقي تنظيم كل من الحزبين شبه مستقل. ونما دور الحزب في الخمسينات وخاصة في الفترة بين 1954 و 1958 التي ساد فيها مناخ ديمقراطي وطني بنفس إصلاحي وراديكالي، وأصبح للحزب كتلة برلمانية كبيرة نسبيًا لها تأثير ملموس.

لعب الحزب دورًا رئيسًا في قيام الوحدة مع مصر عبد الناصر، ولكن عبد الناصر ما لبث أن فرض النظام السياسي السائد في مصر نفسه، فأمر بحل جميع الأحزاب ومصادرة جميع الصحف، ومصادرة الحريات العامة عمومًا، وإقامة دولة أمنية لأول مرة في سورية، ثم أبعد القيادات البعثية عن مواقعها، ووضعها في مواقع ثانوية، وأبعد ضباطها إلى مصر، أي جرد البعثيين، وجرد السورين من السلطة.

البعث خلال فترة الانفصال بين 28 أيلول/ سبتمبر 1961 و8 آذار/ مارس 1963

مع زوال الوحدة بين سورية ومصر، بعد الانقلاب العسكري 28 أيلول/ سبتمبر 1961 عادت الحياة السياسية إلى سورية وعادت الحريات العامة، وعادت الأحزاب لتعيد تشكيل تنظيماتها، ولكن حزب البعث لم يرجع حزبًا واحدًا، بل تشظى في أحزاب صغيرة جدًا، يتكون كل منها من بضع مئات من الأعضاء في أعلى تقدير:

أولًا: حزبان بعثيان

1) “حزب البعث العربي الاشتراكي” وعلى رأسه “القيادة القومية” التاريخية: ميشيل عفلق- صلاح الدين البيطار –منيف الرزاز– شبلي العيسمي وغيرهم وكانوا يُعرفون “بالقيادة القومية”، وقد أدان هؤلاء الانفصال، ورفعوا شعار “العودة الفورية للوحدة” مع مصر.

2) “حزب البعث العربي الاشتراكي” الذي عرف بـ “القيادة القطرية المنفصلة عن القيادة القومية”. اعتبر هؤلاء “الأساتذة الثلاثة” (عفلق والبيطار والحوراني) مسؤولين عن حل الحزب وبالتالي فشل الوحدة، ورفعوا شعار “لا وحدة بلا ديمقراطية”. وكان رياض المالكي (شقيق الضابط الوطني المغدور عدنان المالكي) أبرزهم. لكن سرعان ما ظهرت الخلافات بينهم حول انضمام موالين للأساتذة الثلاثة إلى التنظيم، فانقسموا عمليًا الى ثلاث مجموعات ضمن هذا الحزب:

  • مجموعة تتبع فكر عفلق وعلى رأسها سليمان الخش ومصلح سالم يحملون فكر ميشيل عفلق وسماهم بعض الحزبيين بالعفلقيين بلا عفلق.
  • مجموعة تتبع فكر أكرم الحوراني وعلى رأسها خليل كلاس وعبد الحليم قدور ويحملون فكر أكرم الحوراني، سُموا حورانيين بلا الحوراني.
  • مجموعة كانت تؤكد أن المشكلة ليست في قادة الحزب، بل في عدم امتلاكه رؤية نظرية وبرنامجًا سياسيًا، وطرحت (لأول مرة في حزب البعث) “الاشتراكية العلمية” بدلًا من “الاشتراكية العربية” التي كان الحزب يتبناها. وكان الموجّه الرئيس لهذه المجموعة الراحل عبد الرحمن منيف الذي كان عضوًا في القيادة القومية واستقال منها عقب المؤتمر القومي الخامس الذي عُقد عقب الانفصال. ومن المعروفين في هذه المجموعة محمود الأيوبي – يسار عسكري – خضر زكريا – ياسين شكر- حميد مرعي… وغيرهم. تحول معظم أفراد هذه المجموعة إلى الماركسية تدريجيًا، وأعلنوا تخليهم عن حزب البعث بعد انقلاب 8 آذار/ مارس، بينما عاد الأيوبي وعسكري إلى الحزب الحاكم.

ثانيًا: حزبان ناصريان هما:

  • حزب الاتحاد الاشتراكي بقيادة جمال الأتاسي، وتكون من بعثيين سابقين وقوميين عرب وغيرهم
  • حركة الوحدويين الاشتراكيين على رأسهم فايز إسماعيل، وتكون من بعثيين سابقين وناصريين آخرين.

بقي هذان الحزبان مستقلين، ولن نفصّل هنا في مآلاتهما.

كان مجموع البعثيين في سورية خلال كل تلك الفترة لا يزيد عن 500 عضو، مع عضوية رخوة وانضباط ضعيف وهكذا كان صبيحة انقلاب 8 آذار/ مارس 1963. لكن قوتهم الرئيسة كانت تتمثل بعدد من ضباط الجيش الذين نظموا أنفسهم في تنظيم سري صغير صارم.

فترة البعث الأولى في الحكم 8 آذار/ مارس 1963 و23 شباط/ فبراير 1966:

تحالف العقيد زياد الحريري قائد الجبهة السورية آنذاك مع ضباط ناصريين وبعثيين وقوميين عرب وبعض الضباط المستقلين وقام بانقلاب ناجح في 8 آذار/ مارس 1963. مستغلين هشاشة المجتمع السوري ومؤسساته بعد الضربة التي وجهها لهم عبد الناصر خلال عهد الوحدة، التي لم يمض سوى عام ونصف على انفصام عراها.

لم يطل الوقت بمجموعة ضباط الانقلاب حتى دبّت الخلافات بينهم، وكان خط الصراع بين الناصريين، وكان غالبهم من السنة، وبين الضباط البعثيين، وكان غالبهم من الأقليات. وقد استطاع البعثيون الفوز لأن الانقلابيين اتفقوا على إبعاد زياد الحريري وتسمية اللواء أمين الحافظ قائدًا لمجلس قيادة الثورة. وكان نفوذ البعثيين قد أصبح قويًا بسبب إعادة 90 ضابط مسرّح من الجيش، كان قد تم تسريحهم بعد الانفصال. وكان من بين المسرّحين كل من صلاح جديد وحافظ أسد، وكان حافظ قد سُرح ونقل إلى قسم النقل البحري في وزارة الاقتصاد. وقد شكل البعثيون قوة كبيرة ملتحمة، وكان معظمهم من الأقليات ومن الأرياف، وقد استطاعت هذه الكتلة التغلب على الآخرين وأخذوا بتسريح الضباط غير الموالين لهم بالتدريج. وكان صلاح جديد يقود عمليات التسريح من موقعه كمعاون لرئيس إدارة شؤون الضباط. وقد حاول الناصريون في 18 تموز/ يوليو القيام بانقلاب عسكري فاشل منح الحجة للبعثيين لتسريح كافة الضباط الذين لا يوالون القيادة الجديدة.

بعد 1963 عاد قسم من البعثيين “القطريين” للاندماج في تنظيم الحزب الحاكم، وعُقد المؤتمر السادس في تشرين أول/ أكتوبر 1963. حيث صدرت عن هذا المؤتمر الوثيقة الهامة “بعض المنطلقات النظرية” للحزب (والتي وضعها الراحل ياسين الحافظ بالتشاور مع الياس مرقص)، وتبنى الحزب فيها “الطريق العربي إلى الاشتراكية” بدلًا من “الاشتراكية العربية”، مما عنى تبنى الحزب، رسميًا هذه المرة، للاشتراكية العلمية. وأصبح البعثيون في حزب واحد، وبقي الحزبان الناصريان مستقلان معارضان للنظام الجديد، واستقل الاشتراكيون العرب في حزب مستقل، واستقلت المجموعة الماركسية عن تنظيم البعث.

مجموعة الحزب الاشتراكي العربي (أكرم الحوراني): استمرت جماعة مستقلة عمليًا خلال فترة الانفصال، ولكن بعد انقلاب 8 آذار/ مارس 1963 أعلنت المجموعة انفصالها عن البعث وتشكيل “حركة الاشتراكيين العرب” التي اتخذت موقفًا معارضًا لانقلاب 8 آذار”.

خلال هذه الفترة قام البعث الحاكم بالإجراءات الاجتماعية المعروفة، فقد أعاد وعمق تطبيق الإصلاح الزراعي الذي كان عبد الناصر قد بدأه خلال فترة الوحدة، كما قامت سلطة البعث بإجراءات تأميم الشركات الخاصة الصناعية والتجارية والخدمية بما فيها البنوك.  وطبق نفس نمط إدارة حكم الوحدة، أي مصادرة الحريات العامة وحريات التنظيم والتعبير ومنع قيام الأحزاب ومنع نشاطاتها وبدأ تشكل الدولة الأمنية البعثية.

فترة البعث الثانية في الحكم: بين 23 شباط/ فبراير و16 تشرين ثاني/ نوفمبر 1970

سرعان ما نشب الصراع بين جناحين في البعث، الأول تقوده القيادة التاريخية المدنية للحزب، وعلى رأسها ميشيل عفلق، بشخصيته الضعيفة ولكن بما لدى القيادة التاريخية من قوة معنوية، وكان توجههم إصلاحي معتدل، والمجموعة الثانية تضم صغار الضباط البعثيين الشباب من الأصول الريفية ومن الأقليات، وكان توجههم راديكاليًا يساريًا ينحو نحو بناء حزب من نمط لينيني. وقد حسم الصراع في انقلاب آخر جرى في 23 شباط/ فبراير 1966 قاده صلاح جديد وجملة من الضباط على رأسهم سليم حاطوم قائد المظليين، وانحاز حافظ أسد إلى هذا الجناح، وتم إبعاد القيادة التاريخية إلى خارج سورية بعد هذا الانقلاب.

برزت خلال هذه الفترة في قيادة دولة البعث أسماء مثل نور الدين الأتاسي رئيس الدولة، ويوسف زعين رئيس الوزراء، وابراهيم ماخوس وزير الخارجية وغيرهم. ومن بين الضباط برز اسم قائد الانقلاب صلاح جديد، ثم حافظ أسد الذي أصبح وزيرًا للدفاع بعد أن كان قائدًا للقوى الجوية. وبرز التوجه الراديكالي للسلطة الجديدة. ولكن هزيمة حزيران/ يونيو 1967، حيث كان حافظ أسد وزيرًا للدفاع، لجمت اندفاعة هذه المجموعة بعد أن أصابت الهزيمة الذات البعثية بطعنة في الصميم، وبدا واضحًا أن التبجح في الإذاعات لا يضمن النصر.

لكن الصراع ما لبث أن برز في هذه المجموعة الجديدة، فقام سليم حاطوم قائد سلاح المظليين بمحاولة انقلابية في ايلول 1966 نتيجة شعوره بالتهميش من قبل القيادة، رغم الدور الكبير الذي لعبه في كل من انقلابي 1963 و1966، ولكن انقلابه فشل فهرب إلى الأردن، لكنه عاد إلى سورية بعد قيام إسرائيل بعدوان حزيران/ يونيو 1967 في اليوم السادس من هزيمة حزيران، معتقدًا أن الهزيمة تفتح بابًا جديدًا في علاقته بقيادة الدولة، ولكن تلك القيادة قامت بإعدامه في 26 حزيران/ يونيو 1967.

منذ اليوم التالي لـ 23 شباط/ فبراير بدأ التنافس بين صلاح جديد الذي سعى لتعزيز قوته في صفوف الحزب، متوهمًا بنجاح النموذج اللينيني، حيث يقود الحزبُ الدولةَ ومؤسساتها بما فيها الجيش، وبين حافظ أسد الذي سعى لتوطيد سلطته في الجيش والأمن، وسعى لكسب الضباط إلى صفه. ولم يمض وقت طويل حتى أصبح هذا الصراع معلنًا منذ خريف 1968. وكان جديد يمثل اتجاهًا يساريًا راديكاليًا، بينما اتخذ حافظ أسد طابعًا اصلاحيًا. وخلال جولات التنافس بين جديد والأسد وتحوله إلى صراع مكشوف قام عبد الكريم الجندي بالانتحار، وقد كان رئيسًا لجهاز أمن الدولة الذي أسسه على غرار أجهزة أمن البلدان الاشتراكية، وكان معاديًا لحافظ أسد.

بعد ارتفاع حدة الصراع وتزايد الاختلافات في التوجهات السياسية الداخلية والعربية والدولية بين جديد والأسد، عقد حزب البعث مؤتمره العاشر في نهاية تشرين الأول/ أكتوبر 1970 واستمر قرابة أسبوعين، واتخذ المؤتمر قرارًا بإبعاد حافظ أسد عن وزارة الدفاع وإبعاد مصطفى طلاس، رجل الأسد المخلص، عن رئاسة الأركان. ولكن الأسد كان يعلم ما يتم تحضيره، فحضّر هو بدوره لانقلاب عسكري أطاح بقيادة البعث، وأعطى انقلابه اسم “الحركة التصحيحية”، ثم قام باعتقال قيادة الحزب والدولة ممن لم يقفوا إلى صفه وأودعهم السجن حتى الممات تقريبًا أو قبيل مماتهم بقليل.

ولأن حافظ أسد أهون الشرين من صلاح جديد الراديكالي، فقد رحبت به الأوساط التقليدية المدينية السورية، ولأنه أعرب عن نيته بإقامة جبهة مع القوى التقدمية، فقد رحبت به مجموعة الأحزاب القومية واليسارية السورية، ولأنه أعرب عن توجهه لتوطيد العلاقات العربية والعلاقات مع مصر ومع دول الخليج، فقد رحبت به الدول العربية، ولأنه ليس مغامرًا كصلاح جديد فقد رحب به السوفييت، ولأن نزعته أقل ثورية فقد رحبت به الدول الغربية. لقد أجاد حافظ أسد مخاطبة مخاوف هذه القوى فضمن الترحيب به وبانقلابه العسكري.

فترة ما بعد 16 تشرين/ أكتوبر 1970 واستفراد الأسد بالسلطة:

بعد أن سيطر حافظ أسد على السلطة منفردًا صب كل اهتمامه على تنظيم الجيش والأمن والحزب وبقية مؤسسات الدولة السورية ككل، بحيث يمنع قيام أو نجاح أي انقلاب عسكري على الإطلاق، وقد نجح في ذلك. فقد فشلت كافة الانقلابات التي كانت تدبر ضد الأسد وتم اكتشافها قبل انطلاقها، بل واستطاع حافظ أن يتغلب على أطماع أخيه في السلطة بسبب الشكل الذي نظم عليه مؤسسات الدولة السورية، وهذه هي المسألة الوحيدة التي أدارها بنجاح بينما فشل في كل شيء عدا ذلك.

أما كيف نجح في الاحتفاظ بالسلطة لثلاث عقود ثم توريثها لولده دون أي صعوبات تذكر، وما هو منهجه في الحكم، فهذه مسألة تحتاج لبحث طويل سنعود إليه.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]