البحريني عباس يوسف في حروفيته الغنائية

24 تشرين الثاني (نوفمبر - نونبر)، 2016

في أرقى تجلياته فإن استلهام الحرف العربي جمالياً (ما سُمي المدرسة الحروفية) ظل مرتبطاً بالنزعة التأملية التي برزت في أعمال فنانين كبار مثل العراقي شاكر حسن آل سعيد والمصري حامد عبدالله والسوري محمود حماد. وكما يبدو فإن تلك النزعة قد عبرت عن نوع من طريقة في النظر إلى الحرف باعتباره حاملاً للمعاني المقدسة التي لا يمكن تجسيدها حسياً. كانت الحروفية أشبه بالرهان الروحي الذي وجد عن طريق الصدفة في الرسم مجالاً حيوياً للظهور من خلال صور، هي في حقيقتها هذيانات جمالية، غلب عليها الطابع الصوفي.

البحريني عباس يوسف وهو يقيم معرضه الشخصي حالياً في قاعة الجمعية البحرينية للفنون التشكيلية هو حروفي من نوع مختلف. لقد اختبر الخط العربي وهو فن رفيع من الداخل، ذلك لأنه امتلك ناصيته في سن مبكرة من حياته، فقد كان ولا يزال خطاطاً من نوع رفيع وهو ما أضفى على علاقته بالحرف نوعاً من الفهم المضاد الذي يسعى إلى إزاحة الحرف من الموقع الذي يتمترس من خلاله بهالاته الغيبية.

الحرف بالنسبة إلى يوسف هو وحدة جمالية، يتم استعمالها عنصراً في بناء اللوحة. ذلك العنصر الذي هو بمثابة لقية يستعمله الفنان البحريني في غايات بعيدة عن استلهام جماله. بالنسبة إليه فإن جماليات الحرف قد استنفدت حتى أنها صارت نوعاً من التزيين والحذلقة البصرية. لذلك فإن الرسام يباغت الحرف حين يطلب منه القيام بما لم يخترع من أجله. إنه لا يستعمله من أجل الإشادة به وبطاقته الخفية، بقدر ما يستعين به على صنع مساحة، تُرسم بإيقاع مندفع إلى خلاصاته، يكون الحرف بمثابة المؤدي الرئيس فيه. معرض عباس يوسف الجديد مهدى كله إلى الشاعر البحريني قاسم حداد. وقد سبق للإثنين أن خاضا غمار تجارب مشتركة. غير أن مغامرة هذا المعرض مختلفة عن سابقاتها. فالرسام الذي صار يبعث كل سبت برسالة حب إلى أحد أصدقائه الذين لا يمكن إحصاء عددهم، قرر هذه المرة أن تكون رسالته إلى صديقه قاسم حداد معرضاً كاملاً.

وإذا ما كان مغزى الرسالة العاطفي واضحاً، فإن كل شيء آخر هو ليس بمثل ذلك الوضوح. صحيح أن الرسام حاول بأقصى ما يملك من موهبة الإنصات إلى الإلهام الشعري أن يمسك بالصور التي سعى الشاعر إلى التقاطها، غير ان اللغة في الشعر تظل هي المجال الحيوي الذي لا يقبل التجسيد. وهنا بالضبط يكمن التطابق بين ما كان عباس يوسف مستعداً للقبول به وبين ما يشكل واحدة من بداهات الشعر. لقد أنصت عباس إلى الغناء الذي تنطوي عليه لغة الشعر، فبعث في حروفه حيوية الرقص. اكتشف يوسف أن حروفيته الغنائية تجعله يقف بعيداً عن المعاني التي ينطوي عليها الشعر، وهي تجعله أشد اخلاصاً إلى روح الشعر.

لا شيء في لوحات عباس يوسف يحرض على الوصف.

الحرف ليس صورته بل إيقاعه. وهو إيقاع يبعد الحرف عن المفاهيم التي تتعلق باستلهامه جمالياً. فليس جمال الحرف مقصوداً لذاته. كما أنه ليس هناك قصد مسبق. لا تقلد الرسوم القصائد، لا تتمثلها ولا تريد أن تبدو كما لو أنها تشكل هامشاً صورياً، يشرح ما التبس منها. عباس يوسف وهو ناقد فن أيضاً يعرف أن رسالة الرسام ليست ظنية. الرسام لا يظن بل يعمل. إنه ينجز ما يراه صحيحاً على مستوى خياله البصري. وكما أرى فإن الرسام قد جرد القصائد من معانيها حين اختار لحروفيته أن تندفع إلى غناء هو غاية الشعر القصوى. غنائيات عباس يوسف هي فتح جديد في المدرسة الحروفية التي راهن كثيرون على موتها.

[sociallocker] صدى الشام
[/sociallocker]