التكنولوجيا والديمقراطية


سمير سعيفان

في البدء

يتعاظم خوف الحكومات من انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، فوصول معلومات ليست تحت الرقابة، وغير مفلترة، يخيف الحكومات. فبوتين يوقف عددًا من وسائل التواصل الاجتماعي في روسيا، وأردوغان يحظر جرائد معارضة، ويوقف وسائل التواصل بين حين وآخر، على الرغم من أن وسائل التواصل هي الوسيلة التي ساعدته في إفشال الانقلاب عليه. والصين تمنع بعضًا منها، وتطلق وسائل تواصل خاصة بها، أما كوريا الشمالية فتمنعها منعًا تامًا، وتمنع الأقنية التلفزيونية الفضائية، وتمنع أي جريدة أو معلومة تدخل البلاد. ودول عدة، من بينها مصر والسعودية والأردن، تصدر قوانينَ للنشر الإلكتروني، تتيح لها محاسبة ما ينشر في وسائل التواصل الاجتماعي. أما الولايات المتحدة، فهي المركز الذي تتجمع فيه معلومات وسائل التواصل والإنترنت كافة؛ لتكون إحدى أدواتها في تمكين سيطرتها، ومدّ أجل هذه السيطرة أطول فترة ممكنة.

“الحكومة السورية” كانت لها سياسة مضحكة، كما كل سياساتها، فقد ظلت تمنع دخول “الساتلايت” -رسميًا- سنوات عديدة، على الرغم من أن أسطح منازل سورية كانت مغطاةً بالصحون اللاقطة، ولم تسمح بدخول الهاتف المحمول، إلا بعد أن أكدّت أجهزة الأمن أنها قادرة على مراقبته أكثر بكثير من الهاتف الثابت، وبقي الفاكس آلة مشبوهة سنوات عدة، ويوضع تحت رقابة شديدة، ودخل الإنترنت إلى سورية متأخرًا سنوات عدة، ولم تكن بحاجة إلى قانون لمعاقبة من يسيء استخدام وسائل التواصل؛ لأن أجهزة الأمن اعتادت أن تعتقل من تشاء، بدون أي قانون، وبدون حساب.

إن ما تسميه الحكومات “الفلتان الإعلامي” يشكل “بعبعًا” مقلقًا، وهاجسًا يمنع أجهزة رقابتها من النوم. والمشكلة لهذه الحكومات، أن وسائل التواصل الاجتماعي، والأقنية الفضائية والإنترنت، هي وسائل للفلتان الإعلامي، وما يخلقه من مخاطر مستقبلية؛ لأنه يسمح بتداول المعلومات والأخبار مقروءة ومصورة، ووصول المعرفة بدون رقابتها “الرشيدة” الى كل مواطن، دون استثناء. والتكنولوجيا هي التي أتاحت كل هذا.

من الأمثلة عن أهمية المعلومة أن كريستوف كولومبس قد علم بأن الأرض كروية، وقرّر -بالتالي- أن يذهب الى الهند بالدوران حول الأرض؛ ليأتي إلى الهند من الشرق بدلًا من الغرب، وعندما وصل إلى الجزيرة الأميركية، اعتقد أنها جزر الهند الشرقية، وأطلق على سكانها الأصليين اسم “الهنود الحمر”، ولكن “أمريكو”، البحّار الآخر الذي وصل الجزيرة بعد ذلك، هو من قال: بل هذه بلاد جديدة، وسميت على اسمه “أمريكا”. إذن هذه المعلومة حول كروية الأرض، التي أنتجها العلم، أفضت إلى اكتشاف قارة بأكملها.

أعتقد أن وسائل التواصل الاجتماعي، وقبلها الهاتف المحمول والأنترنيت، وقبلها الأقنية الفضائية، قد لعبت دورًا كبيرًا في تغيير قناعات الناس، فباتوا يعرفون أكثر، ويتواصلوا أكثر، وهذا التواصل الجماعي جعل الناس تشعر بقوتها، بعد أن حرصت الحكومات على تشتيت قوى المجتمع، وتذرّره، ونشر ثقافة الخلاص الفردي، إما بالتقرب إلى الحكومة، أو بالتقرب إلى الله، أو كليهما معًا، وانتشار ما عبّر عنه الفنان المرحوم فيلمون وهبي بأغنيته “جحا قال هالموال”: “خربت عمرت، حادت عن ظهري، بسيطة”، المهم أن أبقى أنا سليمًا، ولا دخل لي بما يحدث للآخرين.

إن انفجار الربيع العربي، بغض النظر عن مآلاته التي تدفع إلى الخيبة؛ حتى الآن، قد جاء بسبب تراكم عوامل تنامي المطالبة بقيم الديمقراطية والحرية بين الناس، والتي ساهمت وسائل التواصل والاتصال في مراكمتها، وقد انفجرت مطلع 2011 مطالبة بالتغيير، فكان الصدام مع القوى المسيطرة، وسيستمر الصدام، قد يتراجع، ولكنه لن يتوقف، متخذًا أشكالًا مختلفة، منها الحار ومنها البارد.

لا يمكن تصور أن يندفع عشرات الملايين في جميع دول الربيع العربي بدوافع صغيرة، كما يراها الحكّام، كالتحريض من الخارج، أو كالتحريض باستخدام الدين، فمثل هذا الخروج لديه أسبابه العميقة التي لم تُحلَّل بالعمق الكافي؛ حتى الآن. وحتى لو تحوّل الربيع العربي إلى خريف، أو شتاء قارس الآن، فإن الشتاء يمهد للربيع دائمًا. وستصل شعوبنا إلى نيل حرياتها، وستصل إلى نظام ديمقراطي شامل، تعود فيه السلطة إلى الشعب، وكل ديمقراطية نسبية، وسأتناول هنا أحد العوامل التي تدفع -موضوعيًا- نحو التغيير، وهو تأثير العلم والتعليم والتكنولوجيا.

العلم والتكنولوجيا كقوة تغيير

يراكمُ تقدم التكنولوجيا، وانتشارها على نطاق واسع، عوامل التغيير، ويعزّز صعود الديمقراطية في المجتمعات كافّة؛ إذ يرفع من معرفة الناس، وبالتالي؛ من مطالبهم بالمشاركة في القرار؛ ما يسهم، ولو على المدى الطويل، في هزيمة العقلية الاستبدادية والثقافة الاستبدادية.

هذه هي المقولة أو الفرضية التي اعتقد أنها بحاجة إلى بحث ميداني أوسع، مع التقدم السريع في التكنولوجيا وانتشارها كل يوم، وخاصة وسائل الاتصال والتواصل، وجعلها في متناول جميع الناس على وجه الكرة الأرضية، وبتكلفة شبه مجانية.

العلم ينمّي المعرفة، والمعرفة تطرد الجهل، وتحرم المتسلطين من إحدى أدواتهم المعتمدة على الخرافات والأوهام، ومنها الحق الإلهي بالحكم، والتعليم يرفع من إدراك المتعلم بقيمته كإنسان، وينمي شعوره بالمساواة، ويرفع من إحساسه بكرامته وإدراكه لحقوقه، ويجعل قبوله بالاستبداد أضعف وميله للمساواة أقوى، وانتشار التعليم يحوّل هذا الإدراك إلى قوة شعبية. كما أن التقدم التكنولوجي يسهم في نشر المعرفة بأشكالها واستخداماتها كافة، على نطاق واسع، بينما كانت معارف البشر من قبل محدودة. ومتاح لطالب الثانوية العامة -اليوم- من المعرفة ما يفوق جميع علماء العصور القديمة مجتمعين، وبالتالي؛ لديه قدرة أعلى على المحاكمة والاستنتاج والإنتاج.

أذكر أنني شاهدت في أحد متاحف الفن في المانيا لوحة فنيّة، رُسمت قبل قرنين من الزمن، فيها جماعة من الألمان، يقوم على خدمتهم “عبدان أسودان”، وقد رسم الفنان “العبدان” بملامح أوروبية بدلًا من ملامح أفريقية، ولكن بلون أسود، وكان التفسير أن الفنان لم يرَ أفارقة من قبل، بينما -اليوم- كل مواطن على وجه الأرض يعرف كثيرًا عن أجناس البشر وثقافاتهم وعاداتهم وطعامهم وهندسة بيوتهم وأنماط عيشهم، فقد رآها في السينما أو التلفزيون أو اليوتيوب، إن لم يكن قد زارها.

لم يعد رجال الدين، ومعظمهم يخدم السلطان، هم مصدر المعرفة الصحيحة، ولم يعد الحكام يحتكرون وسائط الإعلام، وكل فرد -اليوم- لديه إمكانية امتلاك أكثر من صفحة/جريدة إلكترونية مجانية على “الفيسبوك” و”تويتر” وغيرهما، وكل فرد لديه مشاركة مع صفحات إلكترونية لآلاف الأصدقاء، إضافة إلى عشرات، إن لم يكن مئات محطات التلفزة، ومواقع الأخبار والجرائد التي يمكن الوصول اليها بكل يسر عبر الإنترنت من أطراف الأرض الأربعة؛ ما يؤمن كمًا هائلًا من الأخبار، لحظة بعد لحظة، إضافة إلى المسلسلات والأفلام التي تحمل قيمًا ومعرفة مختلفة، ولن يذهب كل هذا بدون تأثير راديكالي على شخصية الفرد، وبالتالي؛ على المجتمع وقيمه ومعتقداته ونظمه.

الديمقراطية من تحت

يتحقق التغيير في حياتنا كل يوم، وربما دون أن نلاحظه، ولا أقصد هنا تغييرات كبيرة، كالثورات التي تقلب الأنظمة، وتحدث تغييرات سريعة، بل أقصد حدوث التغيير على نحو تراكمي يومي تدرّجي، يتحقق في كل مجال بدرجات مختلفة في جميع بلدان العالم، دون استثناء، ولو بدرجات، حتى في أكثرها تخلفًا واستبدادية، فأوضاع اليوم هي أفضل مما كانت عليه قبل خمسين عامًا، وأفضل بكثير مما كانت عليه قبل قرن مضى، والسبب بسيط، وهو أن العلم يتقدم والتعليم يتوسع والتكنولوجيا تنتشر؛ بما يخلق قوى تغيير كبيرة على جميع المستويات، وفي المجالات كلها. وصول التعليم إلى الناس مكسب ديمقراطي، ووصول المعرفة والمعلومات والأخبار إلى كل فرد مكسب ديمقراطي آخر، وهما مكسبان يخلقان تأثيرهما، بغض النظر عن طبيعة الأنظمة السياسية؛ ما يولّد قوة جبّارة للتغيير.

حقوق العمل هي -اليوم- أفضل، وحقوق الإنسان العادي هي اليوم أوضح، ومن قبل كانت التقاليد تفرض نمطّا معينًا من العلاقات بين أفراد الجماعة، تقوم على حقوق متفاوتة ومتباينة. أما اليوم، فثمة قانون يساوي بين الجميع، وثمة محاكم يحتكم إليها الناس، وثمة وسائط هائلة تستطيع الفضح، وتخلق رقابة على النخب المتحكمة بمفاصل المؤسسات، وغير ذلك كثير وهذا كله يحقق خطوات تغيير وتقدم صغيرة، ولكنها مازالت بعيدة عن الكمال، وخاصة في بلداننا.

نسبة النساء المتعلمات تزداد، ويزداد عدد النساء اللواتي يخرجن للعمل، ومع هذا الازدياد ترتفع مكانة المرأة في البيت وفي المجتمع؛ حتى لو بقيت ترتدي الحجاب، وعلى الرغم من أن المساواة في مجتمعاتنا مازالت بعيدة، ولكن وضع المرأة -اليوم- أفضل بكثير من وضعها قبل قرن، وارتفاع الضجيج حول حقوق المرأة، والتمييز ضدها دليل على ذلك، فمن قبل لم نكن لنسمع حتى بمطالبات.

اليوم يرى الإنسان العادي رؤساء وملوك العالم، ويسمع عنهم، ويرى جوانب من حياتهم الشخصية، ويستمع إليهم يتحدثون، ويقرأ كثيرًا من النقد عنهم وعن فضائحهم؛ ما ينزع الهالة المقدسة التي أحاط حكام الزمن السابق أنفسهم بها، خذوا الرئيس السيسي اليوم، فكمّ السخرية التي تظهر في وسائل التواصل الاجتماعي عنه، وعن مدى ضعفه وعدم أهليته أكثر من أن تعد. كل فرد في العالم اليوم يرى الرئيس الأميركي كلينتون وبوش، والآن أوباما، ينتهون إلى مجرد مواطنين عاديين بعد أن كانوا قادة العالم لبضع سنين، ويسمع كل فرد كثيرًا من القصص عن خلع رئيس وزراء دولة كبيرة بتهمة فساد صغير، أين هو من فساد قادة العالم الثالث، كل هذا يراقبه الأفراد، ويختزنونه ويراكمونه، ولن يذهب هذا التراكم هباءً.

لقد أصبح كل فرد يعلم -في قرارة نفسه- أن استفراد فرد أو بضعة أفراد بالسلطة، بطرق غير ديمقراطية، أمر لا يملك أي منطق أو أساس موضوعي، وبالتالي؛ أي حق، وإذا كان هذا الفرد لا يتحرك -اليوم- فسيتحرك في الغد، بطريقة أو بأخرى.

الديمقراطية تبدأ من الفرد، والتعليم والمعرفة تعززان إدراك الفرد بذاته ولذاته، وترفع شعوره بالكرامة، وتزيد من إدراكه أن اغتصاب السلطة بأي حجة، كانت دينية أو دنيوية، أمر لم يعد مقبولًا، وترفع من رغبته بلعب دور، وبمشاركة في القرار، على مستوى الحي أو الجمعية التي ينتسب إليها، أو البلدية أو المنطقة، وبإجراء انتخابات ديمقراطية على المستويات كافة. وإن كانت هذه القناعات حبيسة في داخله في أوضاع تقمعها، فإنها تشكل أداة تغيير في المستقبل عندما تتراكم في نفوس غالبية الأفراد، ويأتي موسم تفتّحها في ربيع جديد لن يكون بعيدًا.

تسابق على استخدام المعرفة والتكنولوجيا

ثمة من يعارض كل ما أتيت عليه أعلاه، فكثير من الشواهد الحية تنفي ما أذهب إليه، فعلى الرغم من تقدم العلم والتقدم التكنولوجي، وانتشار التعليم، ما يزال الاستبداد قائمًا في كثير من مناطق العالم، بل وراسخًا في العقول. واليوم توجد قوى ظلامية ماضوية متخلفة، معادية للديمقراطية تستخدم التكنولوجيا بمهارة؛ لنشر الفكر الماضوي والتعصب والعنصرية، مستفيدة من رسوخ ثقافات ماضوية لدى شعوب العالم المختلفة، وإن كان بدرجات متفاوتة، ولديها تقنيون ماهرون، بل ومتعلمون بشهادات عليا، ممن يكرسون علمهم لخدمة مشروعات ظلامية، ونرى اليوم تحشيد أعداد غفيرة من الناس وراء الدعوة لقيام “دول دينية”، وفق نهج قديم غريب عن العصر وديمقراطيته، كما تلقى أعمال “داعش” الإجرامية تعاطفًا ودعمًا من بعض الأوساط، وترى -من جهة أخرى- حشودًا شعبيةً مذهبيةً تدعو للأخذ “بثأر الحسين”، بعد 1400 عام على مقتله في صراع على السلطة.

لكن ما هو أخطر من هذه المجموعات الماضوية، مجموعات حديثة مستقبلية، تستخدم العلم والتكنولوجيا لتدعم الاستبداد والاستغلال وتمارسه، فمن قبل كانت ألمانيا النازية تقف في طليعة بلدان العالم تقدمًا علميًا وتكنولوجيًا، كما نرى إسرائيل اليوم، وهي دولة متقدمة علميًا وتكنولوجيًا، تمارس أسوأ أشكال الاستبداد دون رادع، وأميركا أنموذج للعدوان على شعوب العالم، وقد انتُخب رئيس جديد لها يدعو إلى الكراهية، ويحط من قدر المرأة، ويتهرب من الضرائب، وينادي بطرد الملايين ممن لجأوا إلى أميركا، ويدعو لبناء الجدران بدلًا من الجسور، ويهدد بابتزاز دول العالم، وبإرغام عدد من شعوبه على دفع إتاوات كبيرة لأميركا، وهذا -بالضبط- لأن أميركا تملك العلم والتكنولوجيا، وتملك الأسلحة الأكثر تطورًا في العالم.

عندما اختُرع الراديو ثم التلفزيون، كانت مؤسسات حكومية يسيطر عليها الحكام، وقد أمدّتهم بأدوات أكبر للسيطرة على “الجماهير” عبر التحكم بالخبر والمعلومة التي تصل إلى المواطن، بما ينسجم مع مصالحهم وأهوائهم.

صحيح أنه بعد اختراع القنوات الفضائية و”الريسيفرات” تغيّر الأمر، وأصبح المواطن يصل إلى مئات المحطات التلفزيونية، يختار منها ما يشاء، وبعد اختراع وسائل التواصل الاجتماعي، باتت معرفة العالم -بكامله- متاحة لكل فرد على وجه الكرة الأرضية، وبين يديه يختار منها ما يشاء. ولكن -من جهة أخرى- منتجات التكنولوجيا هذه ذاتها خيوط تربط الأفراد بأفكار وقيم يمكن أن تكون معادية للديمقراطية، تصوّر أن مارك زوكربيرج، مالك شركة “فيسبوك”، يملك معلومات تفصيلية عن حياة 1.8 مليار شخص على سطح الكرة الأرضية. واليوم يعتمد اليمين المتطرف الأوروبي، كما اعتمد ترامب، على وسائل التواصل الاجتماعي إلى حد بعيد، وكانت سببًا في نجاحه، وتُجرى تحقيقات -الآن- حول نشر مواد والترويج لأخبار محددة على فيسبوك، على نحو مقصود؛ لمساعدة ترامب على الفوز في الانتخابات.

إذا كانت التكنولوجيا لها قوة مضاعفة، فالسؤال هو: من يمتلك هذه التكنولوجيا، ومن يوجهها لخدمته؟ في الواقع يمتلكها رجال أغنياء، ينتمون إلى الطبقات المسيطرة، وانتشارها يجعلها أداة أكثر فاعلية في خدمة مالكيها الساعين إلى تشكيل الرأي العام، وقناعات الأفراد والتلاعب بعواطفهم وعقولهم، بما يلائم ترسيخ سلطتهم المعاصرة، سلطة الطبقات المسيطرة، والولايات المتحدة تنفرد في التحكم بنحو 80 في المئة من الإعلام العالمي، وتسيطر سيطرة كاملة على الإنترنت، وعلى جميع وسائل التواصل الاجتماعي، الأكثر انتشارًا في العالم، وهي تجمع عن كل فرد كمًا من المعلومات لا يمكن تخيله.

وكل هذا يتعارض مع القول بأن التقدم العلمي والتكنولوجي يعزز الديمقراطية، بل إن التقدم العلمي والتكنولوجي عامل محايد، مستقل عن طبيعة الأنظمة، ويمكن أن يعزز الاستبداد أيضًا.

نعم ولكن

على الرغم من اتفاقي مع صحة الاعتراض السابق، ولكن ثمة أمران أقصدهما:

الأول: هو أنني لا أعني بالديمقراطية مسألة النظام السياسي فحسب، بل أعني الديمقراطية الشاملة، في الحقول المختلفة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، إضافة إلى المعرفية، وفي المستويات المختلفة، ابتداءً من العلاقات ضمن الأسرة، والعلاقة ضمن الحي، والأنظمة على مستوى البلدية والمدينة؛ مرورًا بالجمعية والشركة ومؤسسات المجتمع المختلفة، وانتهاءً بنظام الحكم، وسبل إنتاج الحاكم، ومرجعيته.

الثاني: هو أنني أتحدث بمنظور مستقبلي وليس آني، بمنظور تراكمي، يؤدي -بالضرورة- إلى التغيير، والتقدم العلمي والتكنولوجي وانتشار التعليم والمعلومة، ووصولها إلى الجميع لا يمكن أن يترك كل شيء كما هو، بل سيشكّل رافعة جبّارة، ستحدث تغييرات واسعة وكبيرة في كل شيء، بدءًا من عقولنا وانتهاءً بنظم إدارتنا لحياتنا الفردية الشخصية، وحياتنا كجماعة بجوانبها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، مرورًا بمنظومة قيمنا وعاداتنا وتقاليدنا. فبيوتنا تتغير وأدواتها تتغير، وطرق عيشنا تتغير، ومصادر رزقنا تتغيّر، والأعمال التي نقوم بها، وطبيعة المهن تتغير، وكل هذا تغير هائل. قارنوا هذا مع أجدادنا فحسب، وبالتالي؛ من المستحيل أن تبقى نظم الماضي وقيمه ومناهجه، وخاصة تلك التي أُنتحت قبل قرون.

إن هذا الكم الكبير من المعلومات والمعرفة التي تدخل ذاكرة الإنسان اليوم تعيد تشكيل العقل بمفاهيم وقيم جديدة، بما يشبه البرمجيات الجديدة Software الأكثر تطورًا التي نُحلّها في الحاسوب محل البرمجيات القديمة، لنتصور -اليوم- عقل الجد، وما كان يختزن في عقله من معرفة ومعارف وما يمتلكه حفيده اليوم من معرفة ومعارف. فالجد الذي يقيم في أحد أحياء دمشق، أو الرقة، أو قرية صغيرة في سهل الغاب من ريف حماه، لم يكن يجيد القراءة، ولم يبتعد عن مكان ولادته أكثر من بضع عشرات الكيلومترات، سوى مرات قليلة في حياته، ويمتلك أدوات بيت بسيطة، ويعيش على بضع قصص وحكايات وأغان تُكرر منذ قرون وقرون، ويملأ رأسه بكثير من الأوهام والخرافات، ويستخدم الحمار في تنقلاته؛ هذا الجد أصبح له اليوم حفيد، درس في المدرسة حتى الكفاءة أو أكثر، وعمل في الخليج لبضع سنين، وركب الطائرة، وهو يمتلك اليوم حاسوبًا وهاتفًا ذكيًا وتلفازًا وبطاقة دفع إلكتروني، ومنزله مزود بالكهرباء وبأدوات كثيرة، لا يمكن لعقل الجد أن يتصورها. الفوارق لا تقف هنا، فمفردات وتعابير الحفيد تختلف، وطريقة نطقه للكلمات تختلف، وثروته من الكلمات تختلف، وأسس محاكمته للأشياء تختلف، وقيم الحفيد تختلف، وكثير مما كان يرفضه الجد يقبله الحفيد اليوم، وكثير مما كان الجد يراه غير عادي بات الحفيد يراه عاديًا جدًا، حتى بالنظر إلى ما يجوز وما لا يجوز.

سيكون المستقبل مختلفًا بالتأكيد، وما احتدام الصراع في منطقتنا إلا نتيجة لصعود شعور قوي بالديمقراطية، اصطدم بقوى ماضوية راسخة تريد حبس التاريخ، ولكن لم يستطع أحد أن يحبس التاريخ في قمقم، فالنازية انهزمت، والفاشية سقطت، والشيوعية خسرت، والقاسم المشترك بينها أنها أنظمة مستبدة. العلم والمعرفة والتكنولوجيا تسد الطريق أمام الدعوات الماضوية، ولو بعد حين، والدعوات الماضوية لا يمكن أن يكون لها مستقبل، سواء أكانت دعوات لإقامة دول دينية أو لأنظمة فاشية عنصرية مستبدة، وربما استمرت هذه الدعوات وأنظمتها لعقد آخر أو أكثر، ولكنها إلى اضمحلال، فالأوضاع التي أنتجب تلك الأفكار، وتلك الدعوات، وتلك المجموعات، لن تستمر، وهي في تغير، وستزول تلك المجموعات بزوالها.

الديمقراطية الشاملة

من الدارج أن تُحصر الديمقراطية في الحقل السياسي، ولكن هل هو من الديمقراطية في شيء، أن يبقى الفرد العادي، الذي يشكل 99 بالمئة من الناس، يعمل ويحصل على القليل، بينما يحصل القليل من البشر على كثير الكثير؟

أعتقد أن التكنولوجيا التي تعزّز قدرة الانسان على النهوض ضد الاستبداد السياسي، ستعزز قدرته على النهوض ضد الاستغلال الاقتصادي والثروات الكبيرة وأنظمة حمايتها الجائرة، وكما كان احتكار السلطة والسلطان، على مستوى القرية والمدينة والبلد، يتم بحجج وذرائع مختلفة، يقتنع الناس بزيفها وبطلانها ويتمردون عليها، مطالبين بالمشاركة في القرار، فإن احتكار المال والثروة يتم اليوم بحجج زائفة، فلا يمكن -البتة- أن يكون متوسط دخل الفرد في أي بلد عشرة، بينما وسطي دخل عدد قليل من الأفراد يصل المليون، أو بضعة ملايين، فالفوارق الطبيعية بين قدرات البشر ومواهبهم وانتاجهم لا تزيد عن عشرة أو عشرين إلى واحد، باستثناء قلة من الناس، ندعوهم العباقرة والنابغين من المخترعين والمكتشفين، وهؤلاء قلّة نادرة، وهم لم يكونوا يومّا بين الأغنياء، فهؤلاء يكونون مشغولين بعلومهم واكتشافاتهم، وليس بجمع المال، وهم يحبون أعمالهم أكثر بكثير من المال، بينما يشترط تكديس المال أن يكون من يكدسه محبًا للمال أكثر من أي شيء آخر، على الإطلاق، ويتقن لعبة السوق التي تكافئ الأكثر براعة في الاحتيال لتحقيق الربح. وهذا يعني أن الفارق بين أدنى دخل، وأعلى دخل، يجب ألا يزيد عن عشرة أمثال؛ وحتى عشرون مِثلًا على أبعد حدّ، وليس مئات وآلاف ومئات آلاف الأمثال، كما هو اليوم. أما ما يسمى مبدأ الربح المفتوح على أي ثروة، مهما علت، فهو صالون للقمار. فماذا أنتج أي ملياردير؛ حتى يمتلك ثروة تعادل ثروة آلاف وعشرات آلاف وربما مئات آلاف وملايين الأفراد؟

إن المشاركة في القرار السياسي لا تعني شيئًا ما لم تقترن بالمشاركة في القرار الاقتصادي، وما لم تقترن الديمقراطية السياسية بالديمقراطية الاقتصادية؛ فأبسط تعريف للديمقراطية هي التوزيع العادل للقوة، ولا معنى للقوة السياسية ما لم تقترن بقوة اقتصادية، ومع وجود فروق كبيرة في القوة الاقتصادية، سيكون الحديث عن الديمقراطية السياسية، وعن الديمقراطية ككل، في خبر كان. وإذا ما اقترنت الديمقراطية السياسية بالديمقراطية الاقتصادية، فإن الديمقراطية الاجتماعية تصبح تحصيل حاصل.




المصدر