‘عالم ترامب: القوميّة الجديدة’
25 تشرين الثاني (نوفمبر - نونبر)، 2016
أحمد عيشة
يعدّ دونالد ترامب، بدعوته لوضع “أميركا أوّلًا”، آخر مجنّد للنزعة القوميّة الخطِرة.
كان دونالد ترامب عندما وعد بـ “جعل أميركا عظيمة من جديد!” يردّد صدى حملة رونالد ريغان الانتخابيّة في عام 1980، عندها سعى الناخبون للتجديد بعد فشل رئاسة كارتر. وفي هذا الشهر، تمّ انتخاب السيّد ترامب لأنّه هو، أيضًا، وعد بتغيير تاريخي لم يحصل مسبقًا.
ولكن هنالك اختلاف، فعشيّة التصويت، كان ريغان قد وصف أميركا بمدينة ساطعة على تلّة، وكما عدّد كل ما يمكن أن تفعله أميركا للمحافظة على العالم آمنًا، لقد حلم ريغان ببلد “لا يلتفت نحو الداخل، وإنّما نحو الخارج، في اتّجاه الآخرين.” أما السيد ترامب، فقد وعد، على النقيض من ريغان، بوضع أميركا أوّلًا، مطالبًا بالاحترام من جانب العالم المستغِل، والذي يتّخذ القادة في واشنطن على أنّهم حمقى، وقال إنّه “لن يقبل أن يتخلّى عن هذا البلد أو عن ناسه من أجل الشعارات الزائفة للعولمة.” لقد كانت أميركا في عهد ريغان تفاؤليّة، أمّا االسيد ترامب فهو يشعر بالغضب.
أهلًا في عصر القوميّة الجديدة، فللمرّة الأولى منذ الحرب العالميّة الثانية تكون القوى العظمى والصاعدة في خدمة أشكال مختلفة من الشوفينيّة؛ فكما أنّ السيّد ترامب، يعتنق قادة بلدان كروسيا والصين وتركيا نظرةً تشاؤميّة مفادها أنّ الشؤون الخارجيّة تمثّل لعبة حصيلتها صفريّة، حيث تتنافس فيها المصالح العالميّة مع المصالح القوميّة. يعدُّ ذلك بمنزلة تحوّل ضخم، يمهّد لعالم أكثر خطورةً.
بلدي يميني أو يساري
إنّ القوميّة مفهوم غامض وزَلِق؛ ولهذا السبب يجد السياسيّون سهولة شديدة في التلاعب به. وفي أفضل حالاتها، توحّد القوميّة البلاد حول قيم مشتركة لتحقيق الأمور التي يعجز الناس عن تدبّرها منفردين، إنّ تلك “القوميّة المدنيّة” هي تصالحيّة وتقدّمية كقوميّة فرق السلام*، أو الروح الوطنيّة الكنديّة الشاملة، أو الدعم الألماني لفريقهم الوطني عندما احتضنوا كأس العالم في عام 2006. تراعي القوميّة المدنيّة القيم الكونيّة، كالحريّة و المساواة، في حين أنّها تتناقض مع “القوميّة العرقيّة”، و التي تُعدّ عدوانيّة و ماضويّة و تعتمد على العرق و التاريخ لتمييز الأمّة عن غيرها. قادت “القوميّة العرقيّة”، في أحلك لحظاتها في النصف الأوّل من القرن العشرين، إلى الحرب.
تمثّل شعبويّة السيد ترامب كارثة بالنسبة إلى القوميّة المدنيّة، لا أحد يشكّ البتّة في وطنيّة أسلافه الرؤساء منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية، ولكن كان كلّ واحد منهم يدعم قيم أميركا الكونيّة ويروّج لها في الخارج. وعلى الرغم من أنّ شعورًا بالتميّز أو الاستثناء كان قد دفع بالرؤساء إلى سحب التوقيع على معاهدات كالمحكمة الجنائيّة الدوليّة، ومعاهدة الأمم المتّحدة لقانون البحار، إلّا أنّ أميركا كانت تدعم النظام العالمي المستند إلى قواعد. إضافة إلى أنّ وقوفها إلى جانب المؤسسات الدوليّة التي كانت تجنّب خطر عالم يحكمه قانون الأقوياء الأناني والقاسي، قامت الولايات المتّحدة بجعل نفسها والعالم مكانًا أكثر أمنًا وازدهارًا، لكنّ السيد ترامب يمثّل تهديدًا لذلك التعهّد، حتى إن كانت القوميّة العرقيّة تنهض في أماكن أخرى؛ ففي روسيا، قام فلاديمير بوتين بتجنّب القيم الليبراليّة العالميّة من أجل مزيج من تقليد سلافي و مسيحيّة أرثودوكسيّة، وفي تركيا، ابتعد رجب طيب إردوغان عن الاتّحاد الأوروبّي وعن محادثات السلام مع الأقليّة الكرديّة لصالح قوميّة إسلاميّة حادّة تستشعر -بسرعة- الإهانات والتهديدات الآتية من الخارج، وفي الهند، يحافظ نارندرا مودي على تطلّعاته إلى الخارج وعلى تحديثه، و لكنّه على علاقة مع جماعات هندوسيّة عرقيّة، متطرّفة تدعو إلى الشوفينيّة وعدم التسامح، وبينهما بعض الاتفاقيّات.
وفي هذه الأثناء، أصبحت النزعة القوميّة الصينيّة غاضبة بشدّة وانتقاميّة، لدرجة أنّ الحزب بات يكافح للحدّ منها. صحيح أنّ البلد يعتمد على الأسواق المفتوحة ويؤيّد المؤسسات الدوليّة، ويريد أن يكون قريبًا من أميركا، لكن بدأ طلّاب المدارس هناك، منذ تسعينيّات القرن الماضي فصاعدّا، بتلقّي جرعات يوميّة من دروس الثقافة الوطنيّة، والتي كانت تهدف إلى محو قرن من إذلال الاحتلال، ولكي تكون صينيًّا بصورةٍ صحيحة، عليك أن تنتمي، عمليًّا، إلى أناس سلاسة هان، وإلّا ستعدّ مواطنًا من الدرجة الثانية في الحالات الأخرى.
على الرغم من ازدهار النزعات القوميّة العرقيّة، فقد فشلت أكبر تجربة في العالم في مرحلة “ما بعد القوميّة”؛ فقد آمن مهندسو ما أصبح يعرف بـ “الاتحاد الأوروبّي” بأنّ القوميّة، والتي جرّت أوروبا إلى حربين عالميّتين مدمّرتين، ستذبل وتموت، وكما قام الاتّحاد الأوروبّي بتجاوز الهويّات التنافسيّة عن طريق سلسة من الهويّات المتشابكة، والتي من خلالها أن تكون كاثوليكيًّا وألزاسيًّا وفرنسيًّا وأوروبيًّا في الوقت نفسه. لكنّ ذلك لم يحدث على الإطلاق في أماكن كثيرة من الاـتحاد الأوروبيّ، فلقد صوّت البريطانيّون على الخروج، أمّا في البلدان الشيوعيّة سابقًا، كبولندا وهنغاريا، فقد وصل قوميّون متطرّفون، وكارهون للأجانب إلى سدّة الحكم، كما أنّ هناك الآن تهديدًا صغيرًا، ولكنّه نامٍ، بأنّ فرنسا قد تغادر –وبذلك ستدمّر- الاتّحاد الأوروبيّ.
كانت آخر مرّة التفتَتْ فيها أميركا إلى الداخل في فترة ما بعد الحرب العالميّة الأولى، وكانت نتائج ذلك الأمر كارثيّة. لا يجب عليك أن تتنبّأ بحدوث أمر رهيب للخوف من نزعة السيّد ترامب القوميّة اليوم، فهي قد تؤدّي، في بلده، إلى توليد عدم التسامح، وإلى تغذية الشكوك حول قيمة الأقليّات وولاءاتها؛ لذلك لم تكن مصادفة أن تُصيب الادّعاءات المعادية للسامية التيّارات السياسيّة الأميركيّة لأوّل مرّة منذ عقود.
أمّا في الخارج، وفي الوقت الذي تستقي فيه الدول الأخرى الإشارات من الولايات المتّحدة، والتي ستكون ملتفة بشكلٍ أكبر إلى الداخل، فسيكون حلّ المشاكل العالميّة أكثر صعوبة. لقد أُثقل التجمّع السنوي لمحكمة الجنايات الدوليّة، هذا الأسبوع، برحيل ثلاث دول إفريقيّة، كما لا تتوافق مطالبة الصين بأراض في جنوب بحر الصين مع معاهدة الأمم المتّحدة لقانون البحار، وإذا قام السيّد ترامب بتنفيذ -وإن حتّى- جزءٍ من خطابه المستند إلى “المذهب التجاري”، فسيخاطر بإضعاف منظمة التجارة العالميّة. وإذا اعتقد أنّ حلفاء أميركا يتقاعسون عن دفع مقابل الحماية التي يتلقّونها، فقد هدّدهم بالابتعاد عنهم. ستكون نتيجة كل ما سبق، وخصوصًا بالنسبة إلى الدول الصغيرة المحميّة بموجب القواعد الدوليّة، هي العيش في عالم أكثر قسوةً، وأقلّ استقرارًا.
توحّد الانعزاليّين
يحتاج السيّد ترامب أن يدرك أنّ سياساته سوف تنتشر في سياق النزعات القوميّة الغيّورة للبلدان الأخرى؛ حيث لن يؤدّي الانسحاب إلى إبعاد أميركا عن العالم بقدر ما سيتركها عرضةً للاضطراب والنزاع الذي ستولّده القوميّة الجديدة. وفي الوقت الذي ستتسمّم فيه السياسيات الدوليّة، ستتعرض أميركا للإفقار وسينمو غضبها، ما سيعرّض السيّد ترامب للوقوع في فخ الدائرة المغلقة للانتقامات والعدوانيّة. من المتأخّر جدًّا بالنسبة إليه الآن أن يهجر رؤيته القاتمة، ولكن من أجل مصلحة بلده ومصلحة العالم، عليه، وبشكلٍ عاجل، أن يعود إلى تبنّي الروح الوطنيّة المتنوّرة للرئيس الذي سبقه.
* فرق السلام (Peace Corps) هو برنامج تنمية تديره حكومة الولايات المتحدة الأميركية ووكالة حكومية تحمل الاسم نفسه، تتضمّن رسالة منظمة فرق السلام ثلاثة أهداف: تقديم المساعدة التقنية، ومساعدة الناس خارج الولايات المتحدة في فهم الثقافة الأميركية، ومساعدة الأميركيين على فهم ثقافات الدول المختلفة حول العالم. المصدر: ويكيبيديا.
اسم المقالة الأصلي Trump’s world
The new nationalism الكاتب مجلّة الأيكونومست -The Economist مكان النشر وتاريخه مجلّة الأيكونومست -The Economist
19-11-2016 رابط المقالة http://www.economist.com
/news/leaders/21710249-his-call-put-america-first-donald-trump-latest-recruit-dangerous المترجم أنس عيسى
[sociallocker] [/sociallocker]