‘إنكلترا والعالم الإسلامي: تاريخ من العلاقات المنسية’
26 نوفمبر، 2016
كانت إنكلترا مقسمة بشكل لم يسبق له مثيل. أدارت البلاد ظهرها لأوروبا، ووضعت ملكتها نصب عينيها تفعيل التجارة مع الشرق. وبقدر ما يبدو هذا الوضع مشابهاً لوضع بريطانيا اليوم، فهو يصف أيضاً البلاد في القرن السادس عشر خلال العصر الذهبي للملكة الأكثر شهرة في تاريخ إنكلترا، الملكة إليزابيث الأولى.
يكمن أحد الجوانب الأكثر إثارة للدهشة لإنكلترا في ظل حكم إليزابيث الأولى في أن السياسة الخارجية والاقتصادية كانت محكومة بتحالف وثيق مع العالم الإسلامي، وهذه حقيقة يتجاهلها اليوم المدافعون عن الخطاب الشعبوي للسيادة الوطنية. يتتبع جيري بروتون في كتابه «السلطان والملكة» (فايكينغ 2016) تأثير الإسلام العميق على الثقافة الإنكليزية وتاريخ التفاعلات المكثفة بين إنكلترا البروتستانتية والعالم الإسلامي، ويبين كيف شكل المسلمون الثقافة الإنكليزية والنزعة الاستهلاكية والأدب خلال الخمسمئة سنة ما بين الحملات الصليبية وصعود الإمبراطورية البريطانية في الشرق الأوسط. في تلك الفترة كان هناك تاريخ مهم من العلاقات الاقتصادية والثقافية والسياسية بين جزيرة إنكلترا والتي كانت تحكمها الملكة إليزابيث الأولى، وسلطان المغرب والعالم الإسلامي الذي كان يتميز بالثراء الخرافي والذي كان يسيطر على نصف حوض البحر المتوسط ويتحكم في طرق دخول أوروبا إلى الشرق.
وكان بابا روما هو الذي جعل هذه العلاقة المثمرة ممكنة بين البروتستانتية والإسلام. وطرد البابا بيوس الخامس إليزابيث في 1570 وأخرجها من الكنيسة الكاثوليكية ما أدى إلى فصل إنكلترا عن معظم دول أوروبا. وعندما أغلقت في وجهها أسواق إسبانيا وإيطاليا وفرنسا، كان لا بد للملكة إليزابيث من التطلع إلى أبعد من القارة الأوروبية بحثاً عن شركاء تجاريين. فحاولت أولاً مع روسيا ونجحت في ذلك لبعض الوقت، ولكن البحار شمال روسيا لم تكن صالحة للملاحة في فترة طويلة من السنة بسبب الجليد. فراحت تبحث أبعد من ذلك، ووضعت نصب عينيها المغرب، ثم إيران وفي نهاية المطاف أكبر دولة إسلامية: الإمبراطورية العثمانية.
بدأت الملكة ترسل التجار والديبلوماسيين إلى مراكش من أجل السكر والملح الصخري، وإلى إسطنبول للقطن والنيلة، وإلى حلب من أجل الحرير الإيراني والبهارات الهندية. يتتبع بروتون قصص هؤلاء التجار والديبلوماسيين، وربما الجواسيس أحياناً، في رحلاتهم للبحث عن تلك السلع. وإذ يعتمد في الغالب على مذكرات هؤلاء التجار، يأخذنا عبر الأماكن التي أصبحت مألوفة أخيراً بشكل مأسوي، إلى مدن مثل الرقة والفلوجة، كانت مركزاً للثروة في القرن السادس عشر. وبينما يحاول مقاومة استخلاص أوجه الشبه بين تلك الأزمنة القديمة والحاضر، يكتب بروتون بحرفية نثراً عن منطقتين جغرافيتين في القرن السادس عشر، حيث نتتبع طلائع الرسل المتجهين إلى القسطنطينية ومراكش وقزوين (عاصمة فارس السابقة)، ونشاهد السيطرة المتزايدة التي مارسها العالم الإسلامي على إنكلترا، كما نلاحظ الانبهار الإنكليزي بالشرق الذي تظهر آثاره بقوة في المطبخ والأزياء والمسرح بالعصر «الإليزابيثي».
أدت التجارة مع الشرق في نهاية المطاف إلى ابتكار أداة مالية جديدة: الشركة المساهمة. كان نقل الأموال والبضائع عبر هذه المسافات الشاسعة مع أشخاص غير معروفين ومن دين مختلف أخطارة كبيرة جداً لإليزابيث أو أي تاجر إنكليزي آخر. فسمحت الشركة المساهمة لهؤلاء الأشخاص بالمشاركة في الأخطار والعوائد. ولكن حتى مع ازدهار التجارة بين الشرق والغرب في ظل حكم إليزابيث الأولى، ظلت إنكلترا شريكاً صغيراً. ومع ذلك ظلت كميات كبيرة من الحرائر والراوند، والكشمش، والتوابل، والسكر تتدفق إلى إنكلترا، وتغير الأذواق، وتجلب الثروة لقلة محظوظة.
تفسيرات لاهوتية تبيح التعامل مع المسلمين
كما يخبرنا بروتون، كانت هذه الضرورات الاقتصادية بالنسبة إلى إنكلترا تثير القلق في ما يتعلق بالتجارة مع أعداء المسيحية المتصورين. راح كل من الكاثوليك وخصوصاً البروتستانت، نظراً إلى وجودهم السياسي والاقتصادي غير الثابت نسبياً في القرن السادس عشر، يبتدعون كل أنواع التفسيرات اللاهوتية لتبرير علاقاتهم المتزايدة مع الإسلام.
منذ البداية، اعتبر مارتن لوثر بابا روما آفة أسوأ بكثير من السلطان العثماني. ومع ازدهار البروتستانتية، في ألمانيا في البداية ومن ثم كدين للدولة في إنكلترا، طور البروتستانت أفكارهم المتعلقة بالإسلام. واعتبروا أن الأتراك هم اختبار من الله وتحدِّ لإيمانهم الذي إذا استطاعوا تحمّله، من شأنه أن يساعدهم في الوصول إلى نقاء الروح. ومع الوقت أصبحت كلمة «تركي» في حد ذاتها تعني الطمع والحسد والدنيوية، أي كل ما كان على البروتستانتية التغلب عليه.
بالنسبة إلى نظرة لوثر العالمية، قام البابا بقتل نفس المسيحي الأبدية، في حين يمكن للأتراك فقط تدمير الجسد الفاني. وهكذا كان يمكن للبروتستانتي تبرير علاقاته الاقتصادية مع المسلمين بسهولة أكبر من علاقاته مع الكاثوليك، الذين كانوا العدو الأكبر للبروتستانتية. بالإضافة إلى ذلك، كان الإسلام والبروتستانتية يتشاركان المروق ومكافحة رجال الدين مما كان يميز هاتين الديانتين عن تجاوزات الكاثوليكية المتصورة.
بالنسبة إلى الكاثوليك، كانت كتابات لوثر عن الأتراك والكاثوليك، والالتقاء المتزايد بين المصالح التجارية الإنكليزية والمصالح التجارية الإسلامية، وعلاقة الحب الواضحة بين البروتستانتية والقوة الساحقة للعثمانيين، تؤكد أخطار مبادرات إليزابيث الموجهة نحو الشرق.
لم تكن القوى الكاثوليكية مخطئة. كانت إليزابيث تريد من العثمانيين المسلمين ما هو أكثر من الحلويات، إذ أرادت السفن والمدافع للمساعدة في حربها ضد القوى الكاثوليكية. قبل وبعد أن سحقت الأرمادا الإسبانية في عام 1588، كانت تطمح إلى قيام تحالف عسكري مع العثمانيين لتوجيه الضربة القاضية لإسبانيا التي كانت تتوق إليها بشدة. كانت لدى إنكلترا قوة بحرية قوية، ولكن ليست قوية بما فيه الكفاية. ولسوء حظ إليزابيث، عاد كل المبعوثين الذين أرسلتهم إلى إسطنبول في ثمانينات وتسعينات القرن السادس عشر من قصر السلطان بوفاض خالٍ. وذلك لأنه من وجهة النظر العثمانية، لم تكن المشاحنات الصغيرة بين القوى الأضعف في أوروبا الغربية تستحق الوقت أو الجهد. كانت لدى العثمانيين مشاكل أكثر إلحاحاً في ذلك الوقت مع الصفويين في إيران باتجاه الشرق وعلى الحدود المجرية في الغرب.
تأثير ثقافي واضح
أما القسم الثاني من كتاب بروتون فيأخذنا من الدسائس الاقتصادية والعسكرية في أعالي البحار إلى مسارح لندن لإظهار التأثير الثقافي للإسلام، أو بشكل أدق، الأثر الثقافي للأفكار الغربية عن الإسلام. قد يبدو هذا الانتقال من مسرح الحرب والتجارة إلى المسرح الفني في البداية مفاجئاً، ولكن بروتون يثبت براعته في تتبع علاقات الملكة إليزابيث مع العالم الإسلامي ليس فقط من خلال السلع والأذواق الجديدة لإنكلترا ولكن أيضاً من خلال وفرة الأفكار الجديدة والشخصيات والوقائع التي كانت مصدر إلهام لكتّاب كبار مثل كريستوفر مارلو، وجورج بيل، وروبرت غرين، وبطبيعة الحال، وليام شكسبير.
أما التتويج الأدبي للسحر الإنكليزي في عهد الملكة إليزابيت بالإسلام فأكثر ما ظهر في مسرحية «عطيل» لوليام شكسبير. وكان الاعتقاد أن الشخصية الأساسية في تلك المسرحية كانت مستوحاة من شخصية السفير المغربي محمد الأنوري، وقد يكون صادفه الكاتب الشهير أثناء إقامته في لندن لمدة ستة أشهر عام 1600، وإنه لمن الطريف معرفة أن سر وجود السفير الأجنبي يتمثل في رغبته في التأكد من إمكان رفع مواطنيه لسعر السكر الذي كانت الملكة تحبه كثيراً إلا أنه تسبب لها بتسوس في الأسنان. مثلت شخصية عطيل التناقضات في الهويات الحديثة المبكرة واستحالة التوفيق بينها. كان عطيل يسمى المغربي، وبالتالي كان أسود ومسلماً، وكان عبداً سابقاً لم يتحرر تماماً من عبوديته، وكان المسلم المتحول إلى المسيحية والذي لم يتخلّ عن إسلامه تماماً، وكان الغريب الدخيل الذي تزوج سراً من الفتاة البيضاء المسيحية الأوروبية ديديمونة. يقول إياجو المخادع لعطيل «أنا لست ما أنا»، إذ على المرء أن يختار: إما مسيحياً أو مسلماً، حراً أو عبداً، أبيض أو أسود، أوروبياً أو عثمانياً. ولما كان عطيل مسيحياً مغربياً، وزوجاً أسود لامرأة بيضاء، ومسلماً سابقاً كان يدافع عن المسيحيين الكاثوليك في البندقية، فهو يمثل كل هذه التناقضات في وقت واحد، وعندما لم يتمكن من حلها استسلم في النهاية إلى القرار الوحيد الممكن أمامه: فطعن نفسه أمام جمهور المشاهدين.
توفيت الملكة إليزابيث الأولى قبل عرض المسرحية. ومعها انتهى عصر «مغازلة» إنكلترا للعالم الإسلامي. تفاوض خليفتها، جيمس الأول، حول التقارب مع إسبانيا، وبذلك اقتربت إنكلترا البروتستانتية مرة أخرى من أوروبا الكاثوليكية. وفي السنوات التي تلت ذلك، بقي من المستحيل التوفيق بين تناقضات عطيل، وبين المسيحية والإسلام وبين الشرق والغرب، في حين أنه تم نسيان دور الإسلام التكويني في تاريخ اللغة الإنكليزية ودروس التفاعلات البناءة بين المسيحيين والمسلمين. وبينما يرى كثيرون الإسلام على أنه دخيل حديث على الغرب، يذكرنا كتاب بروتون بأن دراسة متأنية لقصة الجزيرة الإنكليزية تظهر مدى خطأ هذا الاعتقاد.
[sociallocker] صدى الشام[/sociallocker]