العودة للدولة والخضوع لوظائفها

26 تشرين الثاني (نوفمبر - نونبر)، 2016
9 minutes

آرام كرابيت

إن الدولة ككيان قائم على ثلاثة دعائم حقيقية كما يقول المفكر اللبناني مهدي عامل: المستوى السياسي وهو الرئيسي الفاعل والمحرك والمستوى الاقتصادي وهو الأساس ثم الإيديولوجيا.

إن الفاعل الرئيسي أي السياسي كان له الدور الأكبر في تشكيل الكيانات الاجتماعية التاريخية واستقرارها وإنعاش مصالح الناس وتحقيق قدر كبير من الأمن.

يصعب تصور وجود الدولة من دون السيطرة على مجالها السياسي والاجتماعي ومؤسساتها وممارسة سيادتها على حدودها الوطنية. لهذا تقاس سلامة الدولة بقدرتها على السيطرة على اقتصادها لإشباع الحاجات الاجتماعية في كل المجالات، وتحقيق الحد الأدنى من المطالب السياسية التي تمس المستوى السياسي الرئيسي، لتتفرغ لتنظيم نفسها وربط علاقاتها بمؤسساتها والمجتمع بعيدًا عن أي خضوع.

تتأكد هذه السيادة في الميدانين الداخلي والخارجي معًا. فالدولة هي مقبض دفة السفينة والرابط الحيوي للقوى الاجتماعية ويدور في فلكها جميع التنظيمات القائمة كالمجتمع المدني والنقابات والأحزاب والجماعات السياسية والدينية وغيرها.

في السابق، قبل الدولة الحديثة كان التوسع عسكريًا في الرقعة الجغرافية ضرورة سياسية وحيوية لأي دولة، لبقاء تكوينها السياسي متماسكا وقويًا. لهذا كانت تعمل على التوسع عبر الحروب لجني الفوائض المالية عبر النهب والسلب من البلدان التي كانت تحتلها لتحقق لها وفرة مالية وثروات، ووفرة في الموارد الطبيعية والبشرية والثراء في كل جوانب الحياة من أجل دفع الدولة والمجتمع للاسترخاء والاستقرار بمركزية سياسية وجيش قوي ومنظم، وفسح المجال لحركة التجارة البينية داخل هذا الكيان ضمن سوق واسعة، بيع وشراء غير مقيدين بقوانين تحد من حركة الاقتصاد، وفتح مجالات واسعة للتوسع باتجاه الشرق والغرب والشمال والجنوب بسهولة ويسر. خاصة أن الأرض التي تحتلها الدولة تتحول تلقائيًا إلى الحاكم كمالك للأرض والموارد التي فوقها وتحتها.

إن الدولة كانت قابضة ومسيطرة بالكامل على الاقتصاد والإيديولوجيا عبر جهازها السياسي الفوقي ولم يكن يسمح للاقتصاد أن يعلو أو يخرج على مقام الدولة. وكانت الإيديولوجيا خاضعة بالمطلق للسياسي، للملك أو السلطان أو الخليفة، خاصة الدين ورجال الدين لأنهما تلقائيًا يتحولان إلى مجرد أدوات أو منبر بيد رأس الدولة الذي يقبض على كل الأمور ويتقيد بشرائع الدين ويدافع عنه.

بعد معاهدة ويستفاليا في العام 1648 م تقرر علاقة جديدة بين سيادة الدولة كمفهوم، ومصلحتها، وأضحت مرجع للسياسة المحلية لكل دولة. وهي التي أعادت صياغة التحالفات الجديدة كبديل عن الدين وقيمه.

بالانتقال إلى مفهوم الدولة الحديثة جرت قفزات نوعية إلى الأمام حيث أضحت هذه الأخيرة هي الحامي للمصالح العلية للقوى النافذة فيها ومرجع لكل شيء مما جعلها محصنة من التذبذبات الداخلية والخارجية ومن التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية. وفي هذه الحالة، تحولت الدولة إلى لاعب ماهر في تعويم القوى والفئات الاجتماعية الداخلة فيها، وتحول الفرد المتمثل بالحاكم إلى موظف، لاعب ماهر في إدارة مصالح النخبة في الدولة وإدارة الصراعات الخارجية من موقع المصلحة الداخلية دون حمولات دينية تعبوية أو إيديولوجيا شمولية.

بعد منتصف القرن السابع عشر تطورت “المانيفاكتورة” والصناعات الآلية بشكل مذهل وتحول الفائض في السلعة المعدة للتصدير إلى علاقة سياسية بين الدولة واقتصادها وأفرزت الحاجة إلى التوسع وإيجاد أسواق.

إن السلعة الجديدة المصنعة عبر الآلة أضحت حمولة سياسية ومالية وفيها إنتاجية عالية وقيم فكرية واجتماعية جديدة ورسائل هيمنة وسيطرة وإشارات على اختلال المعادلات السياسية والاقتصادية التي سادت آلاف السنين، تناغمت مع تصاعد القوى الاجتماعية الاقتصادية الجديدة إلى السطح وفسح المجال لنفسها أن ترتقي إلى الأعلى وتحمل المجتمع معها وتجبر القوى السياسية القديمة الرضوخ لشروطها وبالتالي فرض إرادتها على الشعوب الأخرى. وخلق بيئة محلية وإقليمية وعالمية مملوءة بالشروط الاجتماعية السياسية الاقتصادية المستقلة عن المجتمع وفرضت واقع جديد وتحولات مهمة غيرت الخارطة الاجتماعية السياسية للبشرية وقلبتها رأسًا على عقب وغيرت المسارات السياسية التي كانت سائدة.

سقطت قلاع القيم القديمة والثقافات السائدة والرموز الكبيرة. وفي صيرورة الاقتصاد وتحولاته وتطوراته وتناغم الدولة معه كرافعة لتسييره والدخول في حروب كارثية من أجل الاستحواذ على السوق والثروات إلى أن وصلنا إلى مرحلة الاحتكارات الدولية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى مرحلة متقدمة يمكن تسميتها برأسمالية الدولة الاحتكارية.

لقد اشتدت المنافسة ووتيرة التمركز الاقتصادي إلى أن تحول هذا الطابع إلى شكل رئيسي للنظام الاقتصادي العالمي سواء كان ذلك على صعيد الوحدات الإقليمية أو على مستوى الفعاليات الاقتصادية العالمية.

لقد تحول الاقتصاد إلى عامل رئيسي ومحرك السياسي وقابض على رأس النخبة السياسية وفرض شروطه وأخّل بأساس البناء أي الدولة ومكانتها وشروط تكوينها ووظائفها ومسكها بزمام الأمور. وبدلًا أن تكون الدولة قائدة العربة السياسية تحول الاقتصاد الاحتكاري إلى أخذ زمام الأمور بيديه. هذا الاختلال في توزيع الأدوار ليس من أساسيات قيام الدولة لهذا ستدخل القوى السياسية التي تمثلها في صراع عنيف بين الفاعل الرئيسي أي السياسي والفاعل الاقتصادي أي الأساس من أجل العودة إلى وظائف الدولة الحقيقة وشروط وجودها.

فلا يمكن أن تصبح الدولة مجرد متعهد تلعب به هذه النخبة أو تلك من خارجها. ففي هذه الصيرورة لن يطول الزمن كثيرا ليدخل الطرفان النخبة الاقتصادية المتمثلة بالاحتكارات والدولة كفاعل بيدها المفاصل الأساسية كالقوة والقانون والمؤسسات، هذا التناقض سيصل إلى حد التفارق ومن ثم القطيعة. وهذه القطيعة سيترتب عليها نتائج كارثية ربما لا يدرك أصحاب القرار في البلدان المركزية صانعة القرار الدولي أن هذا التفارق سيؤدي إلى كارثة في السطح والعمق. وسيدخل  المجتمع في تناقض بين متطلبات الدولة الراعية لحدودها الوطنية ومنها الاقتصاد المتمركز على الذات وبين تلبية مصلحة الاحتكارات العابرة للحدود والحواجز. هذا الأمر ربما يؤدي إلى الفاشية والإطاحة بكل شيء وربما يؤدي إلى انهيار الاقتصاد العالمي برمته طالما تعمل الدولة في غير وظائفها ومن الخطأ الجسيم أن تتحول إلى وكيل لدى الآخرين.

يمكننا طرح السؤال: في غياب دولة مهيمنة أو فاقدة السيطرة على اقتصادها ما هو مستقبلها، خاصة كدولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت مهيمنة ليس على حدودها فحسب وإنما على حلفاءها المقربين خاصة أوروبا واليابان ونيوزلندا واستراليا وكندا وعلى جزء كبير من دول العالم عامة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وإلى اليوم؟ وما هي النتائج الذي سيترتب عن هذا الغياب في القبض على الاقتصاد، وفي غياب قوى حامية له؟

إن العولمة التي تسيرها الاحتكارات العالمية وضعت الدولة في خدمتها، ولديها القدرة على إعادة تشكيل المجتمعات في داخل أوروبا وآسيا والولايات المتحدة وأفريقيا وأميركا اللاتينية خاصة أن الشركات الاحتكارية كالنفط والسلاح والبنوك والإعلام أدخلوا الدولة والمجتمع في خدمتهم وانفصلوا عنها.

ستعمل هذه الشركات العائمة فوق الدولة والمجتمع إلى إشعال حروب عبثية من أجل تسويق مصالحها، وفتح الحدود والحواجز دون قوانين أو إرادات سياسية تمنع حركتها وستعمل على سحب المكتسبات الاجتماعية والسياسية في البلدان المركزية وما وصله الإنسان عبر نضاله الطويل في الحرية وحقوق الإنسان وحقه في مسكن والخبز والملبس والعمل.

فـ “علم السياسة كما هو معروف هو علم الدولة أو السلطة أو القوة أو التخصص السلطوي للقيم”. ولا دولة دون سيطرة ودون جهاز متحكم بالعنف وموجه.

وهذه الدولة كمفهوم هي كلية القدرة لا يمكن أن يأتيها الشيء من خارجها وإلا ستكون نافلة، ويمكن تسميتها أي شيء إلا الدولة.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]