حرية المجتمع هي الطريق إلى حرية المرأة


حبيب عيسى

يحتفل العالم في الخامس والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر، كل عام، باليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة، وتستمر فاعليات ونشاط هذا الاحتفال لمدة ستة عشر يومًا، تبدأ من ذلك اليوم؛ وحتى العاشر من كانون الأول/ ديسمبر المصادف لليوم العالمي لحقوق الإنسان.

وإذا كان اختيار هذا اليوم قد استند إلى حدث إجرامي، نفذه الطاغية المستبد، رافاييل تروخيلو، والذي كان حاكمًا لدولة الدومنيكان؛ حيث قتل بوحشية ثلاث شقيقات، هن الأخوات ميرابال، في 25 تشرين الثاني/ نوفمبر 1960، اللواتي جاهرن بنداء الحرية في مواجهة الاستبداد والتوحش الذي تمارسه أجهزة الدكتاتور القمعية، واحترامًا لذكرى تلك المناضلات قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة، بعد ثلاثين عامًا من تلك الحادثة، في 17 كانون الأول/ ديسمبر 1999 تخليد تلك الذكرى باختيار يوم 25 تشرين الثاني/ نوفمبر، من كل عام، موعدًا سنويًا لليوم العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة، يبدأ به النشاط الدولي في هذا الشأن، ويستمر حتى العاشر من كانون الأول.

ونحن -هنا- في سورية، وفي هذه الأوضاع المأسوية التي تحيط ببلادنا، نشارك الإنسانية بمشاعرنا على الأقل تلك الذكرى، وهي مشاعر متعبة، لكننا لا نملك سواها، ونحن نشارك الإنسانية تلك الدعوة النبيلة لمناهضة العنف ضد المرأة، في الوقت الذي يقاوم فيه مجتمعنا -بأطيافه كلها- ذلك العنف والإجرام الذي تعرض، ويتعرض، له وطننا، بشرًا وحجرًا وشجرًا، لكننا نقول بكثير من الألم أن المنظمات الدولية وهيئات أممية متحدة، وغير متحدة، تبدو عاجزة عن مشاركة شعبنا مقاومته للعنف العنيف الذي تتعرض له المرأة، ماديًا ومعنويًا، في بلدنا، وهي تندب كرامتها وحريتها وأطفالها وذويها وجيرانها ووطنها؛ ما يكاد يأخذها بعيدًا، فتتجاهل، ولو مرحليًا، ما تتعرض له من تمييز وتعنيف ذكوري، أو بسبب من قوانين وأعراف ظالمة، متعلقة بقوانين الأحوال الشخصية، وغير الشخصية.

(2)

بل، وأرجو أن تغفروا لي ما قد يعدّه بعضكم موقفًا صادمًا من منظمات دولية، أنتجتها وترعاها دول محكومة بنشوة النصر بعد الحرب العالمية الثانية، فعدّت نفسها وصية على الإنسانية جمعاء، وشكلت مجلسًا أطلقت عليه تسمية “مجلس الأمن الدولي”، لكنها هي التي تحتكر القرار فيه عن طريق “الفيتو”، وأحاطته بديكور، مما يسمى “الجمعية العامة للأمم المتحدة”، قراراتها غير ملزمة، وعندما بدأت المجتمعات تنتج جمعيات ومؤسسات مدنية وأهلية للحقوق الإنسانية، عادت دول الهيمنة العنصرية تنتج مؤسسات كاريكاتورية، في محاولة لاحتواء ذلك النشاط وتوظيفه انتقائيًا؛ بحيث تعدّ تلك المنظمات انتهاك حقوق الإنسان في بلد ما، عمل من أعمال السيادة، وتعدّ الفعل ذاته في بلد آخر جرمًا دوليًا، وهكذا نسأل بكل بساطة: كم يجلس على مقاعد ما يسمى “الجمعية العامة للأمم المتحدة ” و”مجلس الأمن الدولي” و”جمعيات الأمم المتحدة للحقوق” من أمثال ديكتاتور الدومنيكان، رافاييل تروخيلو، بل يُعدّ ما ارتكبه ذلك الديكتاتور من توحش نقطة في بحر توحش كثير من الطغاة والمستبدين الذين احتلوا، ومازال كثير منهم يحتل تلك المقاعد التي تُسمى دولية؟ وبالتالي؛ فهل يصلح المجرمون للتشريع في مناهضة الإجرام؟ باختصار شديد، إن ما يسمى قانونًا دوليًا ومنظمات دولية، وما يتفرع عنه من مؤسسات مصابة بعوار قانوني شديد، يستخدمها مجرمون وقتلة وعنصريون واجهةً ديكورية؛ لتغطية القباحات العنصرية التي يرتكبونها، ماديًا ومعنويًا، بحق الإنسانية، وما لم تُنظَّف مقاعد “الجمعية العامة للأمم المتحدة من الطغاة والمستبدين، الذين سطوا على السلطة في دولهم، وإذا لم تُعتمَد معايير حقوقية في صحة تمثيل الدول، بوصفها أشخاصًا في القانون الدولي في الهيئات الدولية؛ بحيث تكون حكومات الدول ممثلة لدولها تمثيلًا شرعيًا، وما لم تنتخب الجمعية العامة للأمم المتحدة “مجلس أمن”، بوصفه سلطة تنفيذية لمدة محددة، ولدورة واحدة، بحيث تُداول مقاعده دوريًا، ما لم يحدث ذلك، فنحن لسنا في مواجهة منظمات دولية مشروعة، وإنما في مواجهة متسلطين على القرار الدولي، ومجرمين بحق الإنسانية، يرتضون التمييز والامتياز والتهميش في ما بينهم، ويفرضون ذلك على الآخرين.

(3)

قد يعدّ بعضهم أنني خرجت عن صلب الموضوع، موضوع المناسبة التي نحن بصددها، وهي “مناهضة العنف ضد المرأة”، لقد أردت مما تقدم، التمييز بين جمعيات إنسانية حقوقية، تشكلت بمبادرات ذاتية من ناشطين حقوقيين على الصعيد الإنساني، يرعاها ناشطون أجلّاء، يمولونها ذاتيًا، وتحكمهم نظرة إنسانية، نحترمهن/ م، ونقدر جهدهن/ م، وبين منظمات وجمعيات ترعاها أنظمة الاستبداد والعدوان والعنصرية، بهدف مصادرة دور الجمعيات الحقوقية الإنسانية الحقيقية، ذات الأهداف النبيلة، وتهميشها واختراق نشاطها، ومحاولة تدجينها وتشويه صدقيتها؛ للتغطية على الجرائم الواسعة التي يرتكبها الطغاة داخل دولهم، والجرائم التي يرتكبها الطغاة الدوليون بالتمييز العنصري بين الدول على الصعيد العالمي، وتعنيف النساء، وغير النساء، ليس إلا جزءًا من تلك المنظومة الجهنمية.

هكذا تسعى أنظمة الاستبداد إلى تحويل ذكرى تلك الجريمة التي ارتكبها طاغية الأكوادور إلى منابر كاريكاتورية للخطابة، وحفلات “الكوكتيل”، ومهرجانات، ومعارض للموضة، والمكياج، لكن لا يمكن لروائح العطور المنبثقة من تلك المهرجانات أن تغطي رائحة الدماء التي تسيل الآن في وطننا، وفي العالم، لا يمكن لموسيقاها أن تحجب صرخات الأطفال ونحيب الأمهات، لا يمكن لمناظر القاعات الفارهة أن تغطي مناظر الدمار والخراب الذي تحدثه أسلحة القتل المتطورة.

(4)

أما المرأة في سورية، فإن كل يوم مرّ، ويمر، عليها هو يومها، وهي تنتشل أطفالها من تحت الأنقاض، وهي تضمد جراح الأخ، والزوج، والجار، وهي تواجه قضبان الزنازين وظلامها، وهي تبحث عن رغيف الخبز لسد رمق أفراد الأسرة المحاصرين، إنها جزء من منظومة الحياة والإنسانية التي تضم المرأة والأطفال والشيوخ والشباب والرجال في مواجهة الموت والدمار والحصار، ولا وقت لديها -الآن- للبحث عن التميز أو الامتيازات بين الرجال والنساء، نعم هناك قوانين يجب تعديلها أو تغييرها، وهناك حلم بالمساواة والعدالة، ليس بين الرجل والمرأة، وحسب، وإنما بين المواطنين نساء ورجالًا، لكن الجميع -الآن- في سورية، نساء ورجالًا، يدركن، ويدركون، أن مقاومة العنف الواقع على المرأة هو جزء من مقاومة العنف والعدوان على المجتمع ككل، وأن المسألة لا تحتمل التجزئة، فإما عنف على المجتمع بكل أفراده. وإما مساواة بين المواطنين جميعًا.

فكل يوم، وكل عام، والمرأة في سورية،  طفلةً، وشابةً، وأمًا بخير، وكل عام، وهي على أبواب الشيخوخة بخير، على الرغم من أنها لا تعترف بتلك المرحلة، فهي دائمة الشباب، وهي جزء من هذه الملحمة الوطنية بشموخها، وأحزانها، ودمائها ودموعها؛ لتنهض سورية منارة للحرية، في وطنها، ولأمتها العربية، وللإنسانية جمعاء، على الرغم من أنها منذ ما يقارب السنوات الست لم تستمتع بأصوات “الدرمبكة”؛ فقد استُبدلت بأصوات الرصاص و”البكبكشن”،لا أعرف إن كان هذا أسمها، فهي تميز صوتها فحسب، واستبدلت أصوات الطبول بأصوات المدافع، واستبدلت أصوات الأبواق بأصوات صفير الصواريخ التي لا تعرف من أين تنطلق، لكنها بعد حين تعرف أين دمرّت…

(5)

لكن تلك المرأة العظيمة في سورية، وفي كل المواقع، تدرك أن هذا الليل موقّت، وسينجلي… وأنها ستصل إلى يوم تقول فيه: كانت محنة ومضت، وستحتفل دمشق بالصبايا، وستكون المرأة سيدة الموقف، وستنعم بقوانين الحرية والمساواة، وسيعتذر منها المجتمع عما لحقها من حيف، وستكون سورية قلب أمتها العربية النابض، وعقل الإنسانية الراجح، والحكيم، والإنساني؛ لبناء نظام دولي يليق بالإنسانية على أساس من المساواة والعدالة بين بني البشر جميعًا، لا تمييز، لا امتياز، لا تهميش.

قد يقول قائل: عجيب أمر هؤلاء السوريين! بلادهم تُدمّر، ليس البنيان الحاضر وحسب، ولكن؛ حتى التاريخي والأوابد، سيادتهم تُنتهك من كل الأطراف، والجيوش الغازية تتزاحم على أرض وطنهم، لا لكي تتقاتل فيما بينها على ما بينها من عداوة، وإنما لاقتسام مناطق النفوذ، وتجريب القوة التدميرية لأسلحتها بقتل أطفالهم، وسماء الوطن تكتظ فيها الطائرات الغازية، لتقصفهم، ومياههم الإقليمية تعج فيها الأساطيل، لتدمير مدنهم، ومع ذلك؛ يتكلم السوريون عن إنهاض أمتهم العربية من كبوتها، بل أكثر من ذلك، يتحدثون عن تغيير هذا النظام العالمي الشائه؟ أليس هذا ضرب من الأوهام ؟، يتحدثون عن ذلك كله، وهم بالكاد يستطيعون مغادرة عتبات بيوتهم، لا يعرفون إن كانوا سيعودون إليها، أم لا، وهم بالكاد يحصلون على ما يسد رمقهم، وهم بالكاد يجدون مأوىً، وهم بالكاد يحصلون على ضماد؛ لتضميد جراح أطفالهم، وهم بالكاد يتمكنون من دفن موتاهم، وهم بالكاد يجدون من يقبل بهم، وهم مشردّون في أرجاء الأرض.. عجيب أمر السوريات والسوريين عندما يذكرهم أحد بذلك الواقع المر، لا ينتابهم الإحباط، وإنما يشعرن، ويشعرون، بالاعتزاز، ويجبن، ويجيبون بصوت واحد : أليس كل ما ذكرتم دليلًا على عظمة هذا الشعب؟، أليس دليلًا على أن تحالف كل تلك الوحوش الضارية المتصارعة، شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا، في هذا العالم، وتضع صراعاتها جانبًا لحصار شعب سورية، وهو في تلك الحالة التي ذكرتم أكبر دليل على أن تلك الوحوش الضارية تدرك أن هذا الشعب السوري العظيم إذا انطلق من محنته، فإن كل مزاياهم العنصرية ستسقط، وأن العالم لن يكون عالم التمييز والعنصرية، وإنما سيكون عالم الإنسانية المتساوية الحرة؟.

فتحية لكل من يقاوم الطغاة والغزاة، تحية للنساء، للرجال، للشباب، للشيوخ، للأطفال في بلادي، فالحرية لا تتجزأ. وحلم الحرية مشرع ومشروع.




المصدر