صناعة الإذعان – عن النظام السوري وجمهوره
26 تشرين الثاني (نوفمبر - نونبر)، 2016
إبراهيم قعدوني
في عام 1925 نُشِرَ كتابٌ أصدره الصحافي الأميركي، والتر ليبمان، بعنوان: «جمهور الأشباح«، وفي جملةِ ما أورده في الكتاب، تحدّثَ ليبمان عن “نخبة ممتازة” تأخذ على عاتقها مسؤولية تشكيل رأي عام، يحوّل المجتمع إلى أكثرية خانعة تردّد ما تسمع، وتعدّ ما سمِعَتهُ حقائق لا يأتيها الباطل، وقد عدّ النقاد السياسيون والاجتماعيون -لاحقًا- ليبمان الأب الروحي للمحافظين الجدد، ثمّ جاء نعوم تشومسكي بعد عقود؛ ليُعرِّفَ هذه السياسة بـ”صناعة الإذعان”، التي تقوم -أساسًا- على تجريد العقل من وظيفته، وتجعل منه صفحةً بيضاء، تدوّن فيها النّخبة -التي تحدّث عنها ليبمان- ما تشاء؛ لبرمجة آراء “العامّة”، وإذا كان تشومسكي يتحدث عن صناعة الإذعان في معرض نقده للدولة الديموقراطية وإعلامها، فكيف هو الحال إذا ما نظرنا لصناعة الإذعان في بيئة الدولة الاستبدادية البوليسية؟
إلى جانب الدعم الخارجيّ اللامحدود الذي حظِيَ به النظام السوري -ومايزال- من أوصيائه/ حلفائه، روسيا وإيران، فإنّه استند -أيضًا- إلى بيئة حاضنة، وفّرَت له مؤازرة داخلية، كان في أمسّ الحاجة إليها، سواء ماديًا أم معنويًا، وأظهَرَت تماسُكًا احتاجه النظام؛ لضمان استمراره في حكمه الهزيل للمساحات المتضائلة لمناطق سيطرته، وخلافًا للتوقعات والتمنيّات التي واكبت المراحل الأولى للثورة السلمية في سورية؛ وراهنَت، في ما راهنت، على انخراطٍ مجتمعيّ واسع وعابر للتمايزات، كان من شأنه -إن تحقق- أن يرفع الغطاء الداخلي عن سلطة الاستبداد ويسرّع من تفكّكها وسقوطها؛ فقد ظلّت القاعدة الشعبية التي اتّكأ عليها أكثر صلابةً ومناعةً ضدّ التغيير.
وإذا كانت بعض الانشقاقات والتصدّعات التي اعترت الكتلة الأقلّ صلابةً وتجانسًا للمجتمع المؤيّد، قد شكّلَت مبعث أملٍ في أن تتّسع إلى ما يشبه أثر الحصى في النهر، إلاّ أنّها لم تكن في موقع يهدّد بتقويض سلطة النظام في مناطق هيمنته، كذلك الأمر، لم تفلح معظمُ الرسائل التي حاول مجتمع الثورة -من خلالها- تأكيد الطبيعة المدنية واللاّطائفية لحراكه في تحصين الوجدان المؤيّد للنظام من دعايةِ هذا الأخير، تلك الدعاية التي كرّست إمكاناتها لشيطنة المحتجّين، وفبركة ما أمكن؛ لإرهاب الجماعات السورية المتنوّعة، وتفجيرِ هويّاتها الهشّة أصلًا.
كان لدعاية النظام -على الرّغم من هزالتها- أثرها المُبتغى، ولم تنقضِ الشهور الأولى للثورة؛ حتى بدا جليًّا أنّ الجمهور المؤيّد للنظام مستعصٍ على الاختراق، وأنّ تصورّاته الناجزة حول الوضع السوريّ، إنّما تعود في أصلها إلى زمن سبق اندلاع الثورة، وعليه؛ لم يكن لدى ذلك الجمهور استعدادٌ لمراجعةِ موقفه المسبَق، بل على العكس من ذلك، راحت جماهير النظام تبحث عمّا يغذّي شكوكها في أكثر أوجه الثورة السورية مدنيّة وسلميّة.
كان النظام محظوظًا -بلا شكّ- بجمهورٍ يشبه جمهور والتر ليبمان، بل إنّ جمهور الأسد كان أكثر فاعليةً من جمهور ليبمان، إذ إنّ قطاعات واسعة منه لم تكتفِ بالمراقبة وحسب، بل انخطرت انخراطًا كاملًا في المعركة ضدّ عموم السوريين، ووضَعت مقدراتها البشرية في خدمة النظام بلا تردّد، غير آبهةٍ للنتائج الكارثية التي أصابت بناها الاجتماعية والاقتصادية والديموغرافية. ينطوي موقفٌ -كهذا- على مازوشيّةٍ جمعيّةٍ، تستدعي بحثًا عميقًا في جذورها وأطوارها، ثمّةَ ما يستدعي البحث في ماهيّة سلطةَ النظام السوري على جمهوره، ذلك الجمهور الذي لم يقتصر على الداخل السوريّ، كما أظهرت السنوات الفائتة؛ إذ تبيّن أنّ التعاطف مع زعيمٍ لا يتوانى عن قصفِ شعبه، والاستقواء عليه بالأجنبي، يتجاوز حدود الداخل والإقليم.
احتوت “الباكيج” التي ورثها النظام السوري الحاليّ عن نظام الأسد الأب قاعدةً شعبيةً كلاسيكيّة، نسجها حافظ الأسد بعناية، وأبقاها متماسكةً بقبضته الحديدية، تكوّنت -في المقام الأوّل- من ولاءات متعالقة، لجمهور ريفيّ وفلاّحي واسع، احتواه الأسد في خزاني البعث والجيش، من خلال توزيعٍ أخذ الانتماءات الطائفية بالحسبان، كما راعى أفضليّةً ريفيّةً لغايةٍ في نفسه، وبرجوازية مستكينة، وجدت قطاعات واسعة منها ضالّتها في الأسد الأب، بعد أن ذاقت مرارة السياسات الاقتصادية الراديكالية لسابقيه من البعثيين، وإضافةً إلى عديد أجهزة الأمن الساهرة على “حماية الوطن من مواطنيه” استعان الأسد -أيضًا- بطبقة من رجال الدين، جرى تصنيعهم بمواصفات ملائمة للدور المرسوم لهم، هكذا ألّفَ الأسد سيمفونية الإذعان التي أطربه سماعها على مدار عقود، فيما كانت السجون بانتظار الأصوات الناشزة.
ورث بشار الأسد نظام أبيه بما فيه، وأمام التحديات الاقتصادية التي وجد نفسه أمامها، انتهج سياسة “اللّبرلة” الاقتصادية التي عُرِفَت “باقتصاد السوق الاجتماعي”، وقفت وراءها نخبة من رجال الأعمال الجدد، طبّق هؤلاء معادلة “نموّ أكثر وتنمية أقلّ”؛ ما ألحق ضررًا بالغًا بالاقتصاد الوطني، وبالمكوّنات الاجتماعية، إذْ تركّزت الثروات في أيدي نخبة محدودة، وازدهرت مراكزها، بينما أزيحت الأطراف نحو هوامش، شكّلت حاملًا موضوعيًا للاحتجاجات الشعبية التي بدا طابعها الطرفيّ واضحًا، وقد عزّز من هذا الرأي تردّد المدن الكبرى وإحجامها عن الانخراط في الحراك الاحتجاجي انخراطًا فاعلًا، فعلى الرغم من تضرّرها، بدورها، إلاّ أنّها آثرت البقاء في حدود نظرية القرود الثلاثة: (لا أرى، لا أسمع، لا أتكلّم)، أو في نسختها الشعبية المستحدثة: (الله يطفيها بنورو).
وإذا ما قُلنا بأنّ الثورة السورية كانت ثورة فقراء ومهمّشين ومتضرّرين من سياسات النّظام الاقتصادية أولًا، كيف يُفسَّرُ -إذن- بقاء فقراء ومهمّشين ومتضرّرين آخرين في صفِّ النّظام الذي ما فتئ يستنزفُ مقدّراتهم، على شُحّها؟ وإذا ما استثنينا أولئك الذين اصطفّوا طائفيًّا، وأولئك المنتفعون من اقتصاد الحرب، بدءًا بالتجار، وانتهاءً بعناصر “التعفيش الوطني”، ماذا نقول بشأن البقيّة الباقية التي تجاهد بنفسها في سبيل الطاغوت؟ أوَ ليست مدن بلادهم تلك التي سوّاها النظام بالأرض، بعديد أسلحته وأسلحة حلفائه المحتلّين، أم هي مدنُ الأعداء؟ وهل صار الإيراني والروسيّ أقرب للسوريّ من السوريّ؟ كيفَ يفكّر جمهورٌ كهذا، وعلى أي حقيقة يستند في صياغة موقفه؟ وكيف يشعرُ حيالَ أطفال حلب ودوما ومضايا، وهم يتضوّرون جوعًا، وتُسحَقُ أجسادهم الغضّة بقنابل الطائرات الروسية؟ ما الذي يعرفه هؤلاء عن بلادهم غير ما تقوله شاشاتُ نظامهم التي يدرِكون كذبها أكثر من غيرهم؟
عادةً ما تصاحبُ أسئلةً كهذه إجاباتٌ نمطيّةٌ وجاهزة تُفسّرُ هذا الخنوع الغرائبيّ بمرجعياته النّفعيّة والطائفية وما إلى ذلك من أوراق اللعب التي ألقى بها النظام السوريّ منذ بداية أزمته، غيرَ أنّ التفكير النمطيّ في ماهيّة هذا الجمهور وتركيبته، لربّما لا يقدّم جديدًا في فهمه، ثمّة حاجةٌ لدراسات اجتماعيّةٍ جديدة تساعدنا في فهم آليّة البرمجة التي تسيّر هذه القطعان من المتعاطفين والمنخرطين في القتل، الجمهور الذي مازال يرقص على طبول النظام وأهازيجه عن السيادة والممانعة! من أيّ طينةٍ صنع حافظ الأسد هؤلاء، قبل أن يسلّمَ مفاتيح رؤوسهم لوريثه؟ أليس هنالك من ترياقٍ لهذا السمّ؟.
يقول قائل بأنّه حتى لو قصفت طائرات النظام، وطائرات العدوان الروسيّ مدنَ ما يفترض أنّها بيئته الحاضنة، سيخرج مؤيّدوه مندّدين بالعدوان الإسرائيلي وبالمؤامرة الكونيّة ضدّ نظامهم الذي هلّلوا له حين أسقط طائرتين إسرائيليتين على الورق، ثمّ صمتوا حين انقشع غبار الأكذوبة الساذجة! تلك حقيقة، ليس في الأمر من افتراء، فالخنوع يجترح المعجزات، كما يبدو حتى اليوم.