داخلَ الثورة أو خارجَها


علي حافظ

ما زال النقاش مستمرًا حول الذين صَمدوا داخل المناطق السورية “المحرَّرة” من قوات الأسد، على الرغم من سقوط البراميل والصواريخ والقذائف القاتلة والمدمّرة فوقهم، والآخرين الذين خرجوا من تلك المناطق إلى أماكن أخرى، أو الذين نزحوا إلى دول الجوار وبعض الدول الغربية وأصبحوا في عداد اللاجئين، أو من بقي حتى الآن ضمن المناطق التي تسيطر عليها قوات الأسد و “داعش”.

وترتفع أحيانًا نوتات صداه عاليًا، ليتحوَّل إلى عُقدةٍ أساسيةٍ في جميع تلك الحوارات السّفسطائية المستمرة لأكثر من خمس سنوات، خصوصًا بعد حصار أكبر المدن السورية؛ حلب.

بعد مرور خمس سنوات ونيّف، باتت أسئلة كثيرة تُطرح، من قبيل؛ ألم يُدرك هذا الإنسان الحقّ من الباطل؟ ألم يرَ ما فعله ويفعله الأسد بالسوريين؟ ألم يعرف كيف يَقتُل الناسَ دون تمييز ويدمر المناطقَ التي تخرج عن سيطرته؟ أين هذا الإنسان من الجبهات والقتال ضد الطاغية وأعوانه الطائفيين؟

إنّ غالبية السوريين قد حسموا موقفهم من ثورة الحرية والكرامة منذ زمنٍ بعيد؛ لكنهم يختلفون -في ما بينهم- حول طريقة التعبير عن هذا الموقف، وبالطريقة التي يساعدون فيها الثورة، ويضحون من أجلها ويُقدّمون كل شيء عندهم؛ من أجل أن تصل إلى بر الأمان.. وفي الوقت نفسه يجب الأخذ بالحُسبان أنَّ هناك فئاتٍ كبيرةً من السوريين، لاسيما من المثقفين منها، ترغب في انتصار الثورة، لكنها -في الوقت نفسه- لا ترغب في تقديم أيِّ تضحية مهما كانت صغيرة!

في المهجر التقيت بأناس كثيرين، يتحرَّقون ألمًا وشوقًا لوطنهم، منتظرين لحظة الانتصار التاريخية على الأسد المجرم وداعش الباغية؛ كذلك التقيتُ بآخرين لا يهمُّهم من ينتصر؛ المهمُّ أن تتوقف الحرب وتتصالح الأطراف، على الرغم من شلالات الدَّمِ التي أراقوها؛ والتقيتُ -أيضًا- بأناس يشتمون الثورة ويلعنون أهلها، ويعملون المستحيل من أجل هزيمتها، مجهزين أنفسهم للهرب كليًا في حال انتصرت!

علينا أن ننتقدَ بعضنا بعضًا، ونلومَ أنفسنا – في كثير من الأحيان- لأننا لم نوفر الأوضاع الملائمة الآمنة لاستقطاب كلّ من يقف مع الثورة، سرًا وعلانية، واستيعابهم في مناطقنا “المحرَّرة”؛ ولم نزرع الأفكار التي تجمعنا أكثر مما تفرقنا؛ ولم نؤمن بثقافة التعدد والاختلاف.. صار ولاؤنا وانتماؤنا للأشخاص والجماعات والمذاهب والكنتونات والإمارات والممولين، وليس للوطن الحقيقي ومواطنه الثوريّ الحرّ الشريف المخلص، بغض النظر عن منبته الطائفيّ أو القومي، أو مرجعيته الدينية أو الحزبية.

هل يستطيع ابنُ الطوائف والأديان والمذاهب الأخرى -مسيحي، أرمني، علوي، إسماعيلي، درزي- حتى لو كان ثوريًا حقيقيًا، العيشَ في المناطق “المحررة” بأمان وسلام؟ هل يستطيع أحدٌ تشكيل حزبٍ ثوريٍّ معارضٍ للأسد له توجهات علمانية أو يسارية يُجاهر بها علنًا في المناطق “المحررة”؟ هل يستطيع أي شخص أن يفصح عن أفكاره المدنية الحضارية بكل وضوح وصراحة في تلك المناطق؟ هل يستطيع أحد أن ينتقد التنظيمات الإسلامية المتطرفة أو يقف ضدها فكريًا وعقائديًا؟

أليست الدولة التي يريد السوريون أن يبنوها هي كيان سياسي يُعبّر عن جميع العلاقات الاجتماعية المتبادلة بين سكانها قبل كل شيء؟! أليست هذه الدولة المنشودة هي روابط إنسانية محترمة لمجتمع حرٍّ كريمٍ قبل كل شيء؟! أليست هذه الدولة مستوحاةً من شعارات الثورة الأولى: “واحد، واحد، الشعب السوري واحد”، “الله، سورية، حرية وبس”، “ثورتنا ثورة لكل السوريين”؟ أليسوا جميعًا شركاء في الثورة والوطن؟

لقد حلم السوريون بالحرية والكرامة والعدالة، وبناء مؤسسات راسخة، وتعددية حزبية حقيقية، وحياة برلمانية سليمة، وتجانس طائفي.. أي بناء دولة المواطنة الحضارية الحديثة؛ لكن جرت الرياح بما لا تشتهي السفن.

الحرية والكرامة وإسقاط الطاغية مسائل ليست معاصرة تمامًا، ولكنها جديدة عليهم. لقد طالب الآخرون بالسلم، بينما طالب السوريون بالكرامة، التي تعني الشرف؛ ومع الشرف هناك صفات يجب أن تفرض نفسها على من طالب بها، مثل: الشجاعة، التضحية، القتال حتى الرمق الأخير، الموت… وهذه قيم حرب معروفة لشعوب هي دائمًا مهزومة؛ هي دائمًا عطشى إلى انتصار واحد؛ هي دائمًا ترغب بمواجهة حقيقية شريفة؛ لكن الحرب المخادعة والسياسة القذرة قد تسرق كل التضحيات بلحظة عابرة من الزمن، ولا تترك سوى الغصة والحسرات والذكريات المؤلمة.

لم يعد يفيد إن كان السوريين داخل الثورة أو خارجها؛ بل المهم أن يتركوا بِدائيَّتهم ويرجعوا إلى إنسانيَّتهم الأولى؛ إلى سوريّتهم الحقيقية كي يجدوا الحل الأمثل؛ سوريّتهم التي كانت أجمل شيء فيهم، وألا يخسروا الأرواح في دواخلهم؛ وألا يموتوا في صراعاتٍ بَينية هامشية عبثية لا تخدم إلا أعداءهم؛ الأسد ومليشياته، “داعش” وأخواتها!




المصدر