عن كاسترو وباتيستا وبشار الأسد


نزار السهلي

لو حظي السوريون بربع التمجيد والتفخيم الذي مارسه، ويمارسه، يساريو العرب من الشيوعيون بحق شخصيات ثائرة ضد الاستبداد والاحتلال والفساد، لوجدت مئات من السوريين مثل جيفارا وكاسترو مازالوا يقاومون فاشية أعتى من تلك التي يتغنى بها ممجدو البطولة، بعيدًا عن الساحات الحقيقية التي يتم التعمية عليها، رحل كاسترو، وفي سجله الحافل والأبرز ثورته ضد الطاغية “باتيستا”، فكان رجال ثورته الذي ناهز عددهم ثمانين مقاتلًا، يقودون الهجوم على العاصمة هافانا؛ ليتقهقر نظام “باتيستا” عند دخول غيفارا إلى العاصمة بـ 300 مقاتل، يرحل كاسترو، وتكثر مناقب الثائر في بيانات النعي “الثورية والوطنية” التي تُصدرها قوى وأحزاب وقادة محسوبون تاريخيًا أنهم من محور الرجل المعادي لـ “لإمبريالية” الأميركية، ومعجبون بأسطورة كاسترو ورفيقه غيفارا، بوصفهما رموز الحرية في القرن الماضي.

لكن السؤال الذي ظل يطرق عقول الشعوب التي استلهمت من تجربتي الثائرين: “غيفارا وكاسترو” قيم وتجارب النضال ضد الاستعمار والطغيان: هل حقًا استفادت من التجربة الثورية عند محاولة التجربة قبل ستة أعوام من الآن؟ وخصوصًا أن الأدبيات الثورية لبعض القوى والفصائل اتخذت من تجربة غيفارا وكاسترو أنموذجًا “لمقارعة” الإمبريالية في الكتب والدوريات التي وزعتها على “طليعتها” الثورية، وبقيت سجينة تلك الكتب والمجلدات التي دأبت على طبعاتها “لتنوير وتثوير” جمهورها.

لم يخطُ السوريون بثورتهم على خطا “جيفارا وكاسترو”، ولم يبحثوا في نماذج لتقليدها، كل ما يحيط بهم له صبغة خاصة، فلا “باتيستا” يُهرول هاربًا من قصره؛ خوفًا من مئات الألوف الثائرة في المدن السورية، ولا الثوار حملوا السلاح لمقارعة قصره عند سفح قاسيون، اكتشف السوريون في ثورتهم طاغية لا يشبه إلا نفسه، وتهاوت عند اكتشافاتهم كل الأدبيات الثورية، وشخوصها المؤطرة في ذهنيات، لا تقود إلا إلى العبودية في شعارات وممارسات “الأسد أو نحرق البلد”، أو “سيموت ربكم ولن يموت الأسد”، شعارات لم يرفعها “باتيستا”، بل رفعها الجيفاريون العرب والكاستريون الذين وقفوا ضد إرادة الشعب السوري، ظن كثير من السوريين والعرب الثائرين أن تجارب التاريخ يمكن أن تعكس نفسها في ربيعهم، فإذا كانت تجربة الجزيرة الكوبية ألهمت بعضهم في فترة الستينيات والسبعينيات، من واقع تحويل تلك الجزيرة من ماخور خلفي للولايات المتحدة، تستوجب أن يثور الكوبيون على طاغيتهم، وأنه لسبب أفظع، يفوق طغيان “باتيستا” عندما يُحوّل بشار الأسد بلد السوريين إلى ساحة خلفية لإيران، وعمق استراتيجي لموسكو، لقتل أحلام وآمال السوريين، بأدوات ميليشياوية مستوردة بعقود الارتزاق المادي والمذهبي والطائفي، من كل حدب وصوب.

يفتح الكاستريون العرب نيرانهم على ثورة السوريين، ويرفعون قبعاتهم لرحيل الثائر، ممنوع أن يكون هناك قدوة أو تقليد، ففي كتب الثورجية العربية ما يفيض عن الإمبريالية، وما تحرك السوريين ضد طاغيتهم إلا دليل على ربطهم بتلك المؤامرة، كما يحب تكرارها جيفاريو الأمس وكاستريو اليوم، ترى كم ثائر من السوريين فاقت سنوات اعتقاله سجن الثائر فيديل، أو كم هي التضحيات التي ما زال يقدمها السوريين في سبيل حريتهم وكرامتهم، هل دمر “باتيستا” هافانا، وأحرق شواطئ الكاريبي بالنابالم، ودمر المستشفيات، وجرف المحاصيل الزراعية، وقتل سكان المدن والأحياء الثائرة، جوعًا وقصفًا بالبراميل؛ ليقول: “باتيستا أو لا أحد”. بالطبع كل المخزون الثوري وأديباته التي كانت دومًا منارات مستلهمة بين الشعوب لم تخضع لواقع الثورة السورية من وجهة نظر الجيفاريون والتشافيزيون العرب، على العكس تمامًا، ظل هؤلاء يُقدّمون أساطير الثوار التي تقع خارج مجتمعاتهم الثائرة، وجبات ثورية، تُلاك في حفلات الخطب السياسية.

لو عدنا إلى الوراء سنوات، نجد أن عجز الجيفاريون والكاستريون في المنطقة العربية عن مواكبة ثورات شعوبهم، ويأسهم من تحقيق برامج ثورية تقود التغيير في المجتمع العربي، كل ذلك ولّد صعوبات عميقة، ترسخت في الارتداد والتردي بإحداث انقلاب في مفاهيم استلهام التجارب، الثورة السورية أنموذجًا في هذا التردي الذي أبداه هؤلاء من تعاطف ومؤازرة مع الطغيان، ولتحدث حالة القطع التام بينهم وبين “جماهيرهم” المفترضة التي هي صاحبة التغيير والإرادة الحقيقية، كان لزامًا على العقل أن يُخضع تجارب الثوريين ومنطلقاتهم لهذا الاختبار المتواصل، يوميًا، منذ ستة أعوام، وليعيد النظر في البذور الثورية المغروسة منذ ستة عقود في حقول “الجماهير”. بات لتلك المجتمعات الثائرة قدرة للتعبير عن أدواتها؛ حتى لو بدت أو صُوّرت على أنها متواضعة ومشوهة، بفعل الهجمة المحيطة بها، وتلك أسباب لها خصوصية، كما أشرت في الحالة السورية المختلفة بتفوق الفظاعة، وانعدام الشبه بين ديكتاتوريات، أمثال فرانكو وباتيستا وهتلر وموسوليني، وبين طاغية نُسبت له خصوصية وريادة في تهشيم المجتمع السوري؛ مُتكئًا على دعائم بوتينية وخامنئية، وميليشياوية مستعارة من هنا وهناك.

لا شك في أن العداء لثورة السوريين كان قويًا، وغير مسبوق، من الطلائع الثورجية المفتونة بثورات تحرث حقول الاستبداد، البعيد عن الجغرافيا والإنسان العربي، تمتلئ مناقب الرثاء بكل “مناضل”، أو ثائر غير سوري في دفاتر الفئات المثقفة والثورية اليسارية؛ لتمهيد الطريق وطمس النضال المستمر، مسموح لتلك الفئات أن تنبش التاريخ الثوري وتُعدد فائدة الثورة والانتصار على الطغيان والاحتلال، وممنوع أن تنظر أمامها إلى مشهد سفك الدماء، ودك المدن بالنابالم والقذائف الارتجاجية والصواريخ العابرة للقارات من حاملات الطائرات الروسية، أو الإيرانية، بل على العكس، إبداء الإعجاب بقوة الاحتلال والطغيان، تفيض من مواقف الجيفاريين والكاستريين، وتعبر عن دوافع المؤازرة للجلاد في كل مناسبة، صرخ السوريون: “نحن إخوانكم، شاطرناكم في كل المواقف والمحن، فلماذا لا تشاطروننا -على الأقل- مشاعر الأخلاق والضمير في لحظات سقوط البراميل المتفجرة فوق رؤوسنا، نحن نتعرض للإبادة الجماعية، وحُق لنا أن نسأل عنكم”.

خط السوريون -بوعي واضح- أساس ثورتهم، وهدفها حرية وكرامة دون الأسد في سورية، ويواجهون قوة لا تقل إمبريالية عن تلك التي ناضل ضدها رفاق الأمس في الجزيرة الكوبية، وربما بسبب هذا الوضوح والانكشاف، خسر ثوريو اليسار تربعهم على شعارات تآكلت، وفقدوا بوصلة الشارع؛ فامسكوا ببوصلة أممية معطوبة، في كل مناسبة وفاة يُشهرونها لعلاج الهلاك الآتي على أديباتهم، فتجد حالة متناغمة من التمجيد البعيد، وقفزًا على وقائع الموت والدمار؛ للتوصل إلى ما يضمن “راحة البال والضمير”، وتقرير القواعد التي تنتهي عندها أغراض الطاغية ومصالحه، التي تأكّد لها منافع المواقف المساندة له من تيار البكّائين على رحيل الطغاة تارةَ، وتارة أخرى، على رحيل “الثوريين”.

سيتذكر السوريون والعرب جميعًا، حقبة ما بعد كاسترو وجيفارا وتشافيز وهوشي منه وماو تسي تونغ، بمرحلة ما تم إنجازه على يد طاغية العصر، المؤسس لأسدية أكثر دموية من فاشية باتيستا  وفرانكو وموسوليني وهتلر، للسوريين غياث مطر، وإبراهيم القاشوش، وحمزة الخطيب، وحجي مارع، وأبو فرات، وآلاف الشهداء في المسالخ البشرية التي ستحفر وتحفظ أسماءهم الأجيال المقبلة، فإذا كان نصيب السوريين فرادة الوحش والطاغية، لهم -أيضًا- فرادة العزيمة والبطولة والجسارة التي لا تقل عن الاحتفاء بثورية من رحل في القرن الماضي، أو الحالي، عصر “باتيستا” انتهى للأبد، وكذلك الأسد لن يكون في الأبد، كما الطغاة جميعًا.




المصدر