كاسترو: نهاية العالم القديم


وائل السواح

لجيل بأكمله، كان فيديل كاسترو يُشكّل مشكلة أخلاقية وسياسية. فمن جانب، تربى أبناء جيلي وتربيت معهم على النظر إلى الرجل نظرة رومانسية ثورية، لم تغيرها السنون كثيرًا، ومهما ابيضّت لحية الرجل وتجعدت وجنتاه، فصورته تظل عندنا بلحية سوداء خفيفة، يُقاتل إلى جوار صديقه، تشي غيفارا، ببدلة الكاكي وطاقية البيريه ضدّ الدكتاتور الكوبي باتيستا، الذي كان قد أطاح بالنظام البرلماني بانقلاب عسكري.

في صبانا تنقلنا بين مضارب الماركسية، ونهلنا من ماركس ولينين وتروتسكي وماو وماركوزه والياس مرقص، ووقفنا مع وضدّ الاتحاد السوفياتي، حاولنا تفهم ستالين، وخجلنا من إعدامه لرفاقه في الحزب، ومن أرخبيل الغولاغ، ومن حالات الجوع والعوز والخوف التي خلفها وراءه. بيد أن فيديل ظل، بالنسبة لنا، خارج ذلك كله، فهو مناضل عنيد، يقود بلدًا صغيرًا على حواف فلوريدا، ويُجابه بمفرده أعتى إمبريالية في التاريخ.

شعرنا بالخجل من خروتشيف، الذي تنازل أمام تهديد الإمبريالي الشاب، جون كينيدي، وأمر بإزالة الصواريخ التي كان قد نصبها في كوبا. وتعاطفنا مع الكوبيين الذين يمضون عمرهم في استخراج السكر ولف السيجار الأغلى في العالم، والركض وراء السياح.

وحين قادتنا التسعينيات إلى مضارب أخرى، ولمسنا قبح النظم الاشتراكية، وتلمّسنا مبادئ الاشتراكية الديمقراطية، وشارفنا على عتبات الليبرالية، وقرأنا بروس أكيرمان وويل كيمليكا وفرانسيس فوكوياما، بدأنا نشعر أن فيديل يُشكّل عبئًا أخلاقيًا علينا؛ فلا نحن نستطيع التنكّر له، كما تنكّر بطرس للمسيح، ولا نحن نستطيع أن نُبرر له إصراره على أن يُبقي بلاده منعزلة عن التاريخ، ويُبقي شعبه تحت نير الأجهزة الأمنية والحزبية. ثم ابتأسنا حين غادر كاسترو منصبه في الرئاسة، مُخلفًا أخاه وراءه، وكأن كوبا لم تنجب رجلا أو امرأة يستطيعان قيادة البلاد من خارج العائلة.

واليوم يرحل الرجل، مُخلفًا وراءه إرثًا مثقلًا بالجوع والفقر والقمع. لم يستطع أن ينقل كوبا من حال القمع والعوز التي كانت عليها في ظل الدكتاتور باتيستا إلى جنة الاشتراكية.

لكن، برحيل كاسترو، يتحرر جيلنا من آخر ما كان يربطه بالعالم القديم. فالرجل -بوفاته- يُعلن انتهاء زمن كان يمكن للدكتاتور أن يكون رجلًا نظيفًا، يعتقد مخلصًا أنه المُخلِّص، وأنه ووطنه شيء واحد. يرمز كاسترو لطاقم من الدكتاتوريين الذين قادوا العالم الثالث في النصف الثاني من القرن الفائت. قائمة تطول لتضم عبد الناصر وتيتو وسوكارنو وهواري بومدين، وسلسلة أخرى من الطغاة الذين كانوا يعتقدون “مخلصين” أنهم يقودون بلادهم نحو الخلاص، وليس نحو التهلكة.

إنهم نتاج حركة التحرر الوطني التي جاءت لتُشكّل قطيعة مع مقدمات الحداثة، التي كانت بدأت تتغلغل في الدول الأقل تقدمًا، وتُؤسس لأنظمة شمولية استمرت عقودًا طويلة قبل أن تنسلخ لتتحول إلى بؤر فساد ومافيات حاكمة. عبد الناصر أورثنا أنور السادات وحسني مبارك وعبد الفتاح السيسي. أمين الحافظ وصلاح جديد أورثانا حافظ وبشار الأسد. وروبرت موغابي لا يزال يسدّ النوافذ أمام أي نسمة للحرية يمكن أن تتسرب إلى زيمبابوي.

لم يكونوا فاسدين، ولكنهم أورثونا فسادًا مرعبًا، ولم يُكدّسوا الثروات في حساباتهم في جنيف، ولكن ورثتهم فعلوا. قدّرت صحيفة الغارديان البريطانية، وفقًا لخبراء ماليين، ثروة أسرة مبارك بـ 70 مليار دولار وثروة الرئيس اليمني السابق، علي صالح، بـ 60 مليارًا. ولا توجد تقديرات قريبة من الصحة لثروة آل الأسد في سورية، ولكن كل التقديرات تشير إلى أضعاف ذلك. وبينما لم يُدمّر مبارك مصر، دمّر كل من علي صالح وبشار الأسد بلده وهو يبتسم.

هذه المبالغ لم يكن ليحلم بمثلها كاسترو وغيفارا، وهما يقاتلان في غابات أميركا الجنوبية، ولا ميشيل عفلق وصلاح البيطار وهما يناضلان في مقاهي دمشق، ولا عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وخالد محي الدين وهم يُخططون للإطاحة بحكومة الملك فاروق بعد عودتهم من فلسطين.

رحل فيديل كاسترو، مُعلنًا نهاية العالم القديم. العالم الجديد ليس بأفضل على كل حال. فهو العالم الذي يُدمّر فيه بشار الأسد وفلاديمير بوتين وعلي خامنئي بلدًا بأكمله، مشرّدين نصف سكانه، ومؤسّسين لثقافة الكراهية والعنف في بلد كان مثالًا للتعايش والتسامح. عالم فاز فيه عنصري مخادع وكاره للنساء برئاسة أكبر بلد في المعمورة، وتنسحب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتتعاظم معالم وصول اليمين المتطرف في غير بلد أوروبي، ويفوز فيه بوب ديلان بجائزة نوبل للأداب.

في عام 1958، كتب الكاتب النيجيري، تشينوا أتشيبي، رواية عظيمة بعنوان “الأشياء تتداعى”، صوّر فيها انهيار قيم القبيلة في وجه الحضارة الآتية من الغرب وانهيار أوكونوكو، زعيم القبيلة وبطلها أمام الحضارة الجديدة. اليوم يبدو أن هذه الحضارة الجديدة نفسها قد بدأت تتداعى.




المصدر