‘سينما أميركا وفيتنام: أيّ دور لعبه رامبو؟’
27 تشرين الثاني (نوفمبر - نونبر)، 2016
يطرح النجاح الكبير الذي حققه فيلم “رامبو II” في الولايات المتحدة عدة أسئلة؛ فالفيلم يناقش موضوعًا حساسًا في الوعي الأميركي: حرب فيتنام. هذه الحرب ستغيّر من سياسة الولايات المتحدة الخارجية لتجعلها انعزالية وتحد من التدخلات الأميركية في الخارج. يبدو أن قناعة كينيدي بأن أميركا في مهمة ألا وهي القضاء على الشيوعية ونشر القيم الأميركية في العالم، وبالتالي قيادة أميركا، قد غرقت في مستنقعات فيتنام حيث قُتل الجنود الأميركيون في حرب تثير دائمًا الجدل. غير أنه منذ أن انسحبت القوات الأميركية من فيتنام في 1973 نجد فيلمًا يعيد كتابة التاريخ باستقدام محارب قديم إلى فيتنام، مكان بطولاته القديمة، ولكن يجعله يظفر هذه المرة بنصر عظيم.
يجب أن نعود إلى فيلم “القبعات الخضر” The Green Berets (1968، إخراج جون واين) لنجد أن الفيلم يؤكد شرعية الحرب الأميركية في فيتنام. أكّد نجاح الفيلم، بالرغم من انتقادات الصحافة، أن أميركا لا تزال ترغب في التضحية بأبنائها في حرب أيديولوجية ضد عدو شيوعي.
وعلى خطى الكولونيل الأميركي بطل الفيلم، الذي كان يقوم بدوره جون واين John Wayne، فإن رامبوـ الذي يلعب دوره سلفستر ستالوني، البطل المعصوم، لا يخالجه أي شك تجاه ضرورة القتال ضد هذه القوات الفيتنامية والسوفيتية الضالّة التي تسيء معاملة المساجين الأميركان منذ نهاية الحرب. لا يتعلق الأمر هنا بتأنيب الضمير الذي شجّع السينما الأميركية بين الفيلمين على مناقشة هذا الموضوع.
لقد عانت كل الشخصيات العائدة من فيتنام من خلل نفسي عزلها عن باقي المجتمع الأميركي. فروبرت دي نيرو، بطل فيلم Taxi driver (1972، مارتن سكورسيزي) لا يندمج في المجتمع مرة أخرى إلا بعد أن يُقدم على فعل طائش تحمّل فيه مسؤولية الاقتصاص الأخلاقي.
إن المحاربين القدامى في فيتنام هم ضحايا حرب غير منطقية بوسعها أن تجعل من أشخاص عاديين جزارين وفقًا لإليا كازان في فيلمه The Visitors. حتمية أن يصبحوا فاسدين تعفيهم من أفعالهم الشنيعة التي ارتكبوها في أدغال فيتنام، وذلك حتى 1979، سنة صدور فيلم كوبولا Apocalypse Now وفيه نشاهد كيف أن الجنون قد تملّك الرجال المُعّذبين بالحرب.
إذا كان رامبو شخصية مُعَذّبة، فذلك ليس بسبب سلوكه السيئ أو الندم الذي يشعر به، بل بسبب أميركا التي رفضت إعطاءه حق مواصلة القتال. رامبو شخصية مريضة ليس بسبب ما شهده في الحرب، ولكن لأنه لم يستطع تمديدها. الصراع المعبّر بين الجيش الذي يؤيد رامبو والسيناتور الذي يبحث بأي طريقة عن نسيان الماضي وطي صفحته يجعلنا نفكر بلا شك ليس فقط في الضغوط التي تعرّض لها نيكسون ليضع حدًا لحرب فيتنام، بل أيضًا في الصراعات التي منذ 1981 نرى فيها الكونغرس يُعارض ريغان بشأن الإنفاقات العسكرية المتعلّقة بالاضطرابات في أميركا اللاتينية.
فمنذ زمن بعيد، لم يتخذ رئيس أميركي هذا الموقف بشأن مشاركة الولايات المتحدة في محاربة الشيوعية بمثل هذا الانفتاح، واضعًا بالتالي حدًا لما أبداه مَن سبقوه مِن تحفظ وانعزاليّة.
وليس من قبيل باب المصادفة أن يُعلن ريغان بعد عرض فيلم “رامبو II”: “عرفتُ ماذا سأفعل إذا ما هاجمنا إرهابيون مرةً أخرى”. ريغان لم يستبق فقط بهذه المقولة النهاية الدراماتيكية لاختطاف سفينة أكيلي لاورو، ولكنه اعتمد سياسة حازمة تجاه الدول الشيوعية، الأمر الذي جعل أميركا تؤمن من جديد بدورها المهم في الاستراتيجية الدولية وفي توازن القوى بين الكتل. رامبو، بتعلّقه وثقته في الجيش، يتماشى تمامًا مع الاستراتيجية الريغانيّة.
لقد أُعجِبَت الجماهير بفيلم رامبو لأنه يروّج لصورة جندي أميركي قوي وعنيد في مكان هُزِم فيه من قبل: هذه الصورة تخفّف من إحساس ثقيل بالذنب. لا يتبقى بعد كل ما قيل سوى فكرة أن أميركا فشلت في فيتنام بسبب الخوف والخلل الاستراتيجي.
ولنفس السبب، قضى الفيلم على ذلك الشعور السخيف الذي كان يشعر به الأميركيون كلّما ذُكرت حرب فيتنام: لقد عادت أرض فيتنام في السينما الأميركية مرةً أخرى لتكون المكان البطولي الذي يمكن فيه استخدام القدرات العسكرية من جديد في القتال.
لم يعد يُنظَر إلى الجيش وأوسمته باعتبارها مصادر خزي وشعور بالذنب دفعت أحد رجال الجيش إلى الانتحار في فيلم “العودة للديار” Coming Home (1978) بعد أن تلقّى لتوه وسامًا عسكريًا. يُلَخِّص جسد ستالوني المليء بالعضلات والذي كان يتباهى فكرة أن فيتنام لم تَعُد، بالنسبة للأميركيين، مصدرًا لمصابي الحرب أو المصابين باضطرابات نفسيّة، بل هي أيضًا مكانًا لأبطال يمتازون بأجسام بالغة القوة والضخامة.
يبدو أن النجاح الباهر للفيلم يؤكد أن الأميركيين قد أدركوا جيدًا أن بلادهم تُعاني من خلل لا بد وأن تصلحه: أن تصير في النهاية منتصرة في مكان هزيمة ثقيلة سابقة.
هلّل الجمهور الأميركي عندما كان رامبو يقتل الفيتناميين والسوفييت من دون تمييز، وهم الأعداء الذين يجب إبادتهم ولا شيء غير ذلك. نرى الأمر ذاته في فيلم “عام التنين” Year of Dragon (1985) حيث البطل، ميكي رورك، يحارب صينيي الحي الصيني مشبّهًا إيّاهم بالفيتكونغ الذين كان يحاربهم في الماضي في فيتنام. إن سليفستر ستالوني في رامبو وميكي رورك في عام التنين يتزوّدان بالانتقام كي يواصلا مهامهما بغضب وعنف.
هذا الانتقام مُبَرّر بما أن الخصم تمت شيطنته، وهذه الوسيلة إذ تتجنب تفسير سبب الوجود الأميركي السابق في فيتنام، تصل في النهاية إلى إضفاء شرعية على هذا الوجود.
كانت حرب فيتنام تمثّل تناقضًا مُهلِكًا لصورة أميركا التي لا تُقهَر؛ لكن السينما أصبحت مُلتزمة بسد الفجوات التي أحدثتها الحرب. الجمهور متحمّس: فهو يهلّل من جديد لأفلام أخرى تعرض مواضيع مماثلة؛ مثل فيلم Commando الذي حطّم الأرقام القياسيّة، مع ضرورة وجود ممثلين ذوي أجسام ممتلئة بالعضلات كشوارزينيغير. يبدو أن جنون هؤلاء الأبطال يدرّ أرباحًا كبيرة على الولايات المتحدة فضلًا عن أنه علاج فعال ضد الشياطين المغضوب عليهم.
[sociallocker] صدى الشام[/sociallocker]