فيلم سنودن: الفن المستقطِب


إيناس حقي

ساد جميع أنحاء العالم، ومجالات الفنون البصرية كافة، صراع طويل الأمد بين نظريتين في الفن. استندت الأولى (الفن من أجل الفن) إلى الشكلانية، وطغيان الحلول البصرية على المضمون الفكري. بينما أصرت النظرية الثانية (الفن من أجل التغيير الاجتماعي) على أهمية عمق المضمون، ومشاركته في الشأن العام، ولا سيما إرشاد وتنوير المشاهدين إلى الحقيقة ووسائل التغيير. ولطالما اتُهم متبنو هذه النظرية بإهمالهم الشكل على حساب الرسالة.

عبر سنين مهنته الطويلة، انتمى المخرج، أوليفر ستون، إلى المدرسة الأخيرة، ولكنه نجح في أفلامه بقلب المعادلة التي تدعي أن الفنانين المهتمين بالتغيير غير معنيين بالشكل، وقدم في عموم أفلامه، ولا سيما في فيلمي: “قتلة بالفطرة”، و”جي إف كي”، مقترحات بصرية تجديدية وعميقة.

قدم ستون لهذا العام فيلمًا جديدًا بعنوان “سنودن”، تناول فيه حكاية إدوارد سنودن، الرجل الذي انشق عن وكالة الأمن القومي الأميركية، وكشف أسرار عمليات المراقبة التي تشمل كل مواطني العالم.

تنطلق أحداث الفيلم من فندق في هونغ كونغ، حيث يرتب سنودن مع صحافيين أميركيين عملية نشر الملفات التي سرّبها، ويمتزج هذا الزمن الواقعي بالزمن الماضي، الذي تتالى أحداثه منذ انضمام سنودن إلى وكالة الأمن القومي؛ وحتى وصوله إلى فندقه هذا. تسير حكايته المهنية -بالتوازي مع ما ورد في الفيلم- مع قصة الحب التي جمعته بفتاة، والتقلبات التي مرت بها تلك العلاقة؛ بسبب حساسية عمله، واضطراره للكتمان، ومن ثم؛ بسبب قلقه الدائم من المراقبة، بعدما اطلع على إمكانيات وكالة الأمن القومي الأميركية.

بدا الفيلم محتارًا في نوعه وسياقه، فتارة يكون فيلم تشويق عن حكاية تسريب المعلومات، وتارة يصبح فيلمًا رومانسيًا عن قصة حب، وتارة يتحول إلى فيلم نشاط سياسي، يهدف إلى نقد السياسات الأميركية الحالية، وتارة أخرى، يتحول إلى فيلم يشرح آليات وطرق المراقبة المتبعة؛ ما أنتج فيلمًا -في المحصلة- لا ينتمي إلى أي من هذه الأنواع، ولا يستوفي -في الوقت نفسه- أيًا من شروطها.

كان أوليفر ستون قد قدم سابقًا فيلمًا يروي سيرة ذاتية، وهو نيكسون، وقد نجح فيه بتقديم حكاية درامية، وتفسير من زاوية مختلفة للشخصية الرئيسة، فيما لم يستطع ستون -في سنودن- أن يقدم لنا صراعًا أو حكاية مشوقة، لقد كانت الدراما -هذه المرة- عبئًا على فيلم يرغب في شرح موقفه من سنودن، وما فعله أكثر بكثير مما يرغب به في رواية قصة سنودن نفسه.

الانحياز للمضمون الفكري، على الرغم من أنه صفة ميزت عمل ستون، إلا أنه كان يشكل –دومًا- جانبًا من البحث البصري والشكلاني الذي يقترحه علينا مع كل فيلم جديد. في سنودن، كان المقترح البصري عاديًا، لا يقدم كثيرًا للفيلم، ولربما كان هذا الأداء من مخرج عادي مقبولًا، لكنه -حقيقة- مخيب للآمال عندما يصدر عن أوليفر ستون نفسه.

نعيش اليوم في عالم شديد الاستقطاب، وكما انقسم السوريون على أنفسهم، منذ آذار/ مارس 2011، فقد انقسمت الولايات المتحدة الأميركية، والعالم برمته، على نفسيهما منذ انتخاب دونالد ترامب، رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية، ولم أستطع، وأنا أشاهد الفيلم، أن أمنع نفسي من التساؤل: هل على الفن -اليوم- أن يساهم في تعزيز الاستقطاب العام، أم أن يساهم في رأب الصدع بين الفرقاء؟ إن كان لا بد للفن من أن يستقطب بدوره، ويتوجه إلى من يتفق معه من جمهور، ولا سيما أن فيلم سنودن بدل أن يثير تعاطف من يختلف مع سنودن في الرأي، سيؤكد له أنه ارتكب جرمًا، قد يرقى إلى مستوى الخيانة، وسيدفع من يتفق مع فعله إلى عدّه بطلًا؛ فهل يكون تعزيز الاستقطاب صفة جديدة تدخل عالم الفن العالمي، فيما عرفته سينمانا العربية منذ عهد بعيد؟




المصدر