إلى منظمي ملتقى القاهرة للشعر: لكم القاعات ولنا الفن


إن لم تستحِ، وإن لم تجد من يحاسبك، فافعل ما شئت.
منذ فترة، أيقن كثير منّا، أنه لا أمل في ثقافة ترعاها الدولة. أدبيًا، وعلى مستوى الإبداع الفردي، ربما لا توجد خسارة، لكن زيادة الترهل في بعض المناطق، المرء أحيانًا بالقرف.

أنت فعليًا، صرت بشكل ما، لا تحتاج رعاية الثقافة رسميًا، خصوصًا تلك الرعاية المُصرّة على القبح. جميع الكُتّاب يستطيعون النشر خارج المؤسسة. جميعهم يستطيع أن يصل لدائرة أوسع من التلقي. الفعاليات المستقلة أجمل عمومًا. غير أنك تتوقف فقط عند سهولة إهدار المال العام في فعاليات ليست على مستوى ما تقدمه القاهرة من آداب وفنون، كأنه مزاج لدى البعض.
اليوم، تنطلق الدورة الرابعة لملتقى القاهرة الدولي للشعر. يقيمه المجلس الأعلى للثقافة، بإشراف من كهنة الشعر الرسمي في مصر، أو ربما أصنامه.

الذين يحبون الرئيس

اندهشت لدهشة الكاتب أحمد عبد اللطيف، المقيم في إسبانيا وزميلنا في فضاء “ضفة ثالثة”، وهو يخبرني بأن اللجنة العلمية للملتقى، تتعارك لكي تختار لجنة تحكيم جائزة هذه الدورة. الجائزة تبلغ تقريبًا مئة ألف جنيه. لم يكن أحمد يعرف أن هذا عُرف حاصل طيلة الوقت، لم يتوقف عنده أحد إلا في السنة التي فاز فيها بالجائزة أحمد عبد المعطي حجازي. لماذا؟ لأن حجازي كان مقرر اللجنة العلمية، التي اختارت بدورها لجنة التحكيم، التي أعطته الجائزة. “كان بودي أن أضع هنا إيموشن الوجه الضاحك ببكاء”. حسنٌ، حجازي عادة لا يبالي. الأصدقاء يقولون: “بطّل شِعر من عشرين سنة، لكنه شاعر كبير، ماتنساش.. أنا مش ناسي، لكن هو ناسي”. الرجل دائم الحضور على المائدة المقدسة لشعراء الدولة، الذين لا يحبون قصيدة النثر، ولا يحبون العاميّة، لكنهم يحبون الرئيس، أي رئيس.

حتى كتابة هذه السطور، كان عدد لا بأس به من الشعراء، المصريين والعرب، اعتذر عن المشاركة، بعدما اكتشفوا جمود برنامج الفعاليات، وكلاسيكية الأسماء المختارة للمشاركة، والتي تعبر عن لحظة أدبية تجاوزها الشعر، بل تجاوزتها الحياة.

الاستقالة عارية من الصحة!

الناقد التقليدي محمد عبد المطلب، رئيس اللجنة العلمية للملتقى، طمأن الجميع، في تصريحات صحافية، بشأن ما تردد في مواقع إخبارية عن تقدمه ولجنته باستقالة لوزير الثقافة، اعتراضًا على تشكيل لجنة الجائزة من قبل أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، دون الرجوع إلى اللجنة ومقررها، قال إن الكلام حول الاستقالة عارٍ تمامًا من الصحة. لم يكن يقصد القول إن اللجنة العلمية لجنة محايدة تنأى بنفسها عن التدخل في أمور الجائزة، لا سمح الله، هو فقط يكذّب أن تكون هناك مشاكل من هذا النوع: “لجنة الجائزة مُشكّلة بموافقتي، والأمور على خير ما يرام، ووزير الثقافة حلمي النمنم يبذل قصارى جهده لظهور المؤتمر على أفضل ما يكون”. هذا لا يعني سوى أن شؤون الكهنوت لم تخرج عن السيطرة.

الشاعرة والأكاديمية المصرية، فاطمة قنديل، قالت إنها دُعيت للمشاركة بورقة بحثية في الملتقى، وبعدما اجتهدت شهرين في تحضير ورقتها، عن “جماليات قصيدة النثر عند عماد أبو صالح”، تم رفض ورقتها. أحدهم قال إن الورقة ليست ملائمة لموضوع الملتقى. بينما قال أحد الموظفين المسؤولين عن التنظيم لقنديل: “عادي يعني حضرتك، ما اتقدم ألف بحث واترفضوا”.

اعتذار أدونيس وسعدي يوسف

الشاعر اللبناني عباس بيضون، بعدما وافق على عضوية لجنة تحكيم جائزة الملتقى، لفته اعتذار أدونيس وسعدي يوسف، وعبد المنعم رمضان. وتذكر كيف حجب الملتقى في إحدى دوراته الجائزة رغم وجود سعدي يوسف ضمن الأسماء المرشحة. نظر بيضون إلى الأسماء المشاركة في الملتقى، وبعض المرشحين للجائزة، وتساءل عن ملتقى للشعر في “القاهرة”، تغيب عنه أسماء انتمت لجماعات “أصوات” و”إضاءة”: “يعني هذا أن عقوداً من الشعر جرى إهمالها وأجيالاً تم تجاوزها، وتجارب رائدة نجرؤ على عدم الاعتراف بها. كأننا لم نفعل سوى نسيان تاريخ الشعر الراهن ورميه خارجاً. هذا بالطبع يحدث، إذا حدث، من دون الاكتراث بأن الأعين لا تزال مفتوحة، وأن ما تراكم في زمننا الراهن من تجارب وألوان وأجيال شعرية قد صار معروفاً بما فيه من آثار وأسماء، وأن الغض عنه وتجاهله لن يكونا سوى عبث في عبث”، قبل أن يعتذر هو الآخر. وتوالت اعتذارات الشعراء، حتى باتت صفحات المهتمين على “فيسبوك”، ملتقى عامًا للسخرية، من ملتقى الشعر الذي يهرب منه الشعراء.

المسألة ليست معركة بين شعراء التفعيلة وشعراء النثر. البعض يتحدث عن هذا متأففًا، طارحًا فكرة أن “القصيدة النثرية لم تعد محتاجة إلى هذا الاعتراف. بات شعراؤها مكرسين بما فيه الكفاية”. هذا، في تصوري، اختزال للحكاية.

أحمد ناجي سجيناً

عشية انطلاق الملتقى، انتشرت صورة الروائي والصحافي المصري أحمد ناجي، خارجًا من قاعة المحكمة، في زي السجن، وفي يده “الكلابشات”، بعد رفض القضاء استشكالًا ثالثًا يرمي إلى وقف تنفيذ الحكم بحبسه متهمًا بخدش الحياء العام. ناجي، الذي لا يكتب الشعر، ينتمي فكريًا، بشكل ما، إلى جيل من الشعراء المستبعدين من اعتراف الكهنوت، والمحرومين من قاعات المجلس الأعلى للثقافة، بسبب تكلس القائمين على فعالياته.

بلدان يُسجن فيها المبدعون بسبب ما يكتبون لا أمل في أن تعطيك مؤسساتها ثقافة حقيقية. اللوم على وزارة الثقافة سيجرّنا إلى أقوال من قبيل: “لا يوجد عازف ماهر في أوركسترا رديئة”. الوزارة حالها من حال الحكومة. لكن المرء يندهش، بين حين وآخر، من مغالاتها في الرداءة. المسألة هنا ليست سياسية. لو أن اللجنة العلمية للمؤتمر بادرت باختيارات جيدة، لن ينزعج الرئيس، الرئيس ينزعج من أشياء أخرى. لكن المسألة أن الاختيارات لا تعبر، فقط، عن حدود الذوق عند المنظمين، ولكن أيضًا عن خوفهم من التغيير حد الرعب، التغيير في كل أشكاله. هنيئًا لكم بالقاعات، ولنا الشعر خارجها.

 



صدى الشام