on
التضامن مع الفلسطينيين جميعًا دون نقصان
ثائر السهلي
الشعور بالخذلان والترك وحيدًا أمام مصير التشتت وضياع الأرض، ظل مُلازمًا الشخصية الفلسطينية منذ ما قبل النكبة، وتكرّس هذا الشعور في أعقاب النكبة وهزيمة الجيوش العربية أمام العصابات الصهيونية في حرب 1948. هذا الإحساس الذي حاف بالفلسطينيين زمنًا طويلًا ورافقته قناعة بعجز الأشقاء والأصدقاء عن تمكين الفلسطينيين من حقوقهم، وأحيانًا منعهم بالقوة عنها، بات زاوية رؤية للنظر إلى العالم والأحداث فيه لدى فلسطينيين كثر، مقيمين ولاجئين.
لا يمكننا استرجاع أي نقاش أو حوار دار بين فلسطينيين اثنين، دون حضور ممثل عن أي جهاز استخبارات، إلا وتكون إشارات الخذلان حاضرة في شرح وتبرير أسباب الهزائم المتلاحقة، وغالبًا ما يستتبعها كفر مُطلق بالأنظمة العربية كافة، وكذلك الأمر بالنسبة لـ “النظام الدولي” بقواه ومنظماته ودوله.
ظلّ الفلسطينيون اللاجئون، منذ سنوات اللجوء الأولى، متطلعين صوب الأراضي والقرى والمدن التي تركوها خلفهم بعد المجازر وعمليات الطرد والتهجير التي وقعت بحقهم، وهذا التطلع والارتباط الوثيق بالأرض ومصير الشعب الفلسطيني المتبقي هناك يجد تعبيره الأكبر في انخراط المخيمات الفلسطينية وأبنائها في سورية ولبنان والأردن بالثورة الفلسطينية، التي انطلقت منتصف ستينيات القرن الماضي وشكّلت المخيمات خزانًا بشريًا وبيئة حاضنة لتلك الثورة، من مقاتلين ومناضلين ومبدعين في صفوف الحركة الفلسطينية، فقدّمت الآلاف من القتلى والجرحى، في المعارك والحروب التي خاضتها إن كان ضد الاحتلال الإسرائيلي، أو القوى التي عملت على تصفية القضية الفلسطينية، وظلت المخيمات الفلسطينية العمود الفقري لمنظمة التحرير الفلسطينية والفصائل الأخرى، خاصة في سورية ولبنان، واحتكّت قطاعات اللاجئين بشكل مباشر وتأثرت بالمعارك التي خيضت على امتداد حقبة الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، واستهدفت خلالها مجتمعات اللاجئين من قبل أطراف عدة، ليس الإسرائيليون طرفًا وحيدًا في معادلتها كما جرت الإشارة، بل أنظمة وقوى وحركات عربية وانعزالية وفلسطينية.
انتهى العصر الذي كانت فيه المخيمات الفلسطينية هي التي تضبط إيقاع “الوطنية الفلسطينية” والمعركة مع الاحتلال والقوى الداعمة له بعد اجتياح “إسرائيل” لبيروت، وخروج المقاومة الفلسطينية، وتشتتها كذلك، وصولًا إلى حرب المخيمات التي وقعت في أعقاب ذلك الاجتياح واستمرت حتى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى في العام 1987. تلك الحرب القذرة التي خاضتها أطراف لبنانية مدعومة من نظام حافظ الأسد، حوصرت خلالها المخيمات الفلسطينية في لبنان، وجوّع أبناؤهان وفتك المرض بقاطنيها، ما أسفر عن سقوط آلاف القتلى والجرحى، ودمار معظم الأبنية والشوارع والبنية التحتية فيها.
طوال ذلك الوقت، وما أعقبه، كانت أحداث الأرض المحتلة والممارسات العدوانية الإسرائيلية المتواصلة، حاضرة كالخبز اليومي في أزقة المخيمات الفلسطينية في الشتات، التي عادت واحتضنت ما تبقى من القوى الفلسطينية التي خذلت أثناء الاجتياح وما بعده، على أنها لم تعد تتكل على مشاريع تلك القوى، ورويدًا رويدًا انفضت عنها. المظاهرات المناصرة لنضال الفلسطينيين بالداخل كانت دائمة وشبه دورية، بجانب حملات دعم الصمود المادي والمعنوي لأشقائهم في الأرض المحتلة، واتخذت أشكال الدعم والمناصرة وجوها عدة، إعلامية وثقافية وتعليمية. وإلى منتصف التسعينيات تقريبًا، ظلت المخيمات الفلسطينية في سورية على سبيل المثال، تحتضن أكثر من نصف كوادر الفصائل الفلسطينية، قبل عودة معظمها في أعقاب اتفاقية أوسلو إلى الأراضي التي قامت عليها السلطة الفلسطينية، والتي يتحدّر منها كثير من كوادر هذه الفصائل، فيما وصف حينها بعملية “نقل الثقل النضالي نحو الداخل”.
لأوسلو علامته الفارقة، وما بعده ليس كما قبله، بطريقة غير مباشرة تنازلت منظمة التحرير الفلسطينية “الممثل الشرعي الوحيد” عن قضية اللاجئين، ورفعتها مع قضايا الحدود والمياه والقدس والاستيطان والأسرى لما أطلق عليه “مفاوضات الوضع النهائي” الذي كان مفترض أن تنطلق في عام 1999 وتنتهي بدولة فلسطينية على حدود العام 1967 وعاصمتها القدس، وحتى الآن، وكما هو واضح، لا تبدو نهاية لمسيرة المفاوضات برمتها، وما استرجعه اتفاق أوسلو سلبته الحرب الإسرائيلية التي شُنّت على الضفة الغربية أثناء الانتفاضة الفلسطينية الثانية، والتي سمتها “حملة السور الواقي”.
بتوقيع رسمي على أوراق أوسلو حوّلت قيادة منظمة التحرير، ولاحقا السلطة الفلسطينية، مجهودها الأساسي على جزء من الأرض يسكنه جزء من الشعب، والباقي تحكمت فيه الأنظمة التي تتولى حكم البلاد المضيفة، كما سياسات التذويب والتصفية الصهيونية. بعد أوسلو صارت التفاصيل أهم من الكليات، فغزة وأريحا أولًا، باختصار وبدون رتوش. أغرقت إسرائيل الجميع بالتفاصيل، وجاء أوسلو ليكللها بدهاليز نظرية “المفاوضات حياة”، ويحاول تركيبها على مجمل نضال الشعب الفلسطيني، وأنتج ذلك خرابًا مريعًا، ليس على مستوى فهم القضية الفلسطينية، وتقسيم الشعب ومصادرة جماعة لقرار قسم آخر، أو التفريط بحقوق فلسطينيين “برا البلاد” بحكم القوة والأمر الواقع، بل تعداه لخراب عميق في فهم أفراد الشعب الفلسطيني لماهية “هويتهم الوطنية” وصراعهم مع المشروع الصهيوني، وبالتالي تعريفهم لماهية فلسطين والفلسطينيين، هل هم “الضفاوية” أم “الغزاوية”، فلسطينيو الـ 48، “اللاجئين”، أم كل أولئك مجتمعين؟.
قُسِّم اللاجئون بفعل الأمر الواقع، على أسس جغرافية متأثرة بطبيعة الأنظمة الحاكمة في الدول المستضيفة، وبناء على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في المجتمعات التي عاشوا بينها. وبكلام أوضح، ظل الفلسطيني في لبنان على سبيل المثال يعاني من تمييز وعنصرية طويلة الأمد، قطعت أواصر التواصل مع المجتمع المضيف الذي عبر جزء كبير منه عن رفضه للوجود الفلسطيني بأحداث ومراحل تاريخية متعددة، وبعد تدمير مخيمات فلسطينية عدة كان آخرها “نهر البارد” في مدينة طرابلس، يتخذ التمييز والعنصرية شكله الأوقح بجدار يبنى حاليًا حول مخيم عين الحلوة في صيدا، أكبر المخيمات الفلسطينية في لبنان. الفلسطيني في الأردن عليه أن يكتم في أحيان كثيرة فلسطينيته خوفًا من تمييز أو استبعاد وظيفي أو اقتصادي. واجه الفلسطينيون في العراق بعد العام 2003 المصير نفسه الذي واجهه مطلع تسعينيات القرن المنصرم أقرانهم في الكويت، بعد احتلال العراق والإطاحة بنظام صدام حسين، الذي كان يرفع شعار القومية، لكن الفلسطينيين كانوا يعيشون في كنف نظامه في أوضاع صعبة للغاية، ومحرومين من حقوق أساسية. بعد الاحتلال انفلتت القوى الطائفية لتنهي الوجود الفلسطيني في العراق ولتدفع بغالبية اللاجئين الفلسطينيين صوب الصحراء السورية والأردنية لسنوات، قبل أن ينتهي بهم المقام في البرازيل والدول المجاورة لها. بمعظم تلك الحالات، إلى جانب مخيمات الأراضي المحتلة في العام 1967، نظر للمخيم بوصفه “بؤرة أمنية” ومصدرًا للشرور، بعد أن تحول إلى لقمة سائغة في مأدبة أوسلو.
في سورية لم يواجه اللاجئون مصيرًا مشابهًا إلا ابتداء من النصف الثاني للعام 2012، قبل ذلك لعقود وجد الفلسطيني في سورية نفسه كأنه في “البيت”، فهو بالقانون مساو بالحقوق لأي سوري آخر، ما عدا حق الترشح والانتخاب السياسي. واستطاع اللاجئون أن يمدّوا طوال تلك العقود أواصر العلاقات بينهم وبين أشقائهم السوريين، في كل المستويات، على الرغم من التوتر الدائم الذي طبع العلاقة بين نظام حافظ الأسد وقيادة منظمة التحرير بزعامة الراحل ياسر عرفات. تبدأ تلك العلاقات في التعليم والثقافة والاقتصاد، ولا تنتهي بالصداقات والجيرة والمصاهرة وحتى الانتماء القبلي. ولم يتعامل النظام السوري مع المخيمات الفلسطينية بوصفها بؤرة أمنية فحسب، خلال فترات التوتر مع عرفات، بل استخدم تلك المخيمات والقوى التي اتخذت من دمشق مقرًا لها ورقة للعب بها إقليميًا، ولاستخدامها ضد عرفات وقيادة منظمة التحرير. وللمفارقة طالما فضّل النظام السوري قوى هامشية بيافطات فلسطينية (الصاعقة – القيادة العامة – فتح الانتفاضة) على الأجنحة الرئيسة في منظمة التحرير، ولاحقًا (حماس) على قيادة المنظمة والسلطة. وللمفارقة أيضا قاسم الفلسطينيون أشقائهم السوريين عسف أجهزة الأمن ودمويتها، حتى قبل اندلاع الثورة السورية في العام 2011، بالرغم من أن المخيمات شكلت بنواحي عدة مساحة حرة خارج النص الديكتاتوري لنظام البعث، دون أن يترك الهامش بلا رقابة وتحكم، كلما استطاع لذلك.أن تبدو، لو شكليًا، مناصرًا ومدافعًا عن فلسطين كان له معنى وقيمة عند السوريين، وقد استغل نظام الأسد المتوارث تلك القيمة دون هوادة.
لا يمكن فهم مآل فلسطينيي سورية، الجرح النازف، دون إدراك العلاقة العميقة بين الشعبين، فالفلسطينيين في سورية لم يتعرفوا عبر الإذاعات والشاشات وصفحات الجرائد على المجتمع السوري ونظامه وأجهزته وكيف كانت تُدار البلد. وكان “الدور الممانع” لنظام الأسد المتوارث محل تندّر ولو بصوت خافت لدى عامة الفلسطينيين في سورية ولبنان الأكثر احتكاكا بـ “سورية الأسد”، خاصة قبل ظهور حركة حماس التي تحمّس لها السوريون بشكل عام، ربما محبة بفلسطين التي يكره الأسد عرفاتها. ثورات “الربيع العربي” والإطاحة بحسني مبارك وزين العابدين بن علي، وصلت رياحها سريعًا إلى عقول شبان شرق المتوسط، وحين اندلعت الثورة في سورية، لم يكن الفلسطينيون يتابعون مع ما يجري في مجتمعاتهم التي جاوروها وعايشوها عقودًا من خلف الشاشات أو لوحة المفاتيح، إذ تأثّروا مباشرة بالحرب التي شنها النظام لإخماد الثورة، مثلما تأثر السوريون العاديون، السكان، المدنيون، الكفاءات.. الخ، وجرى لاحقًا استهدافهم بشكل مباشر بعد أن تعاطفوا مع ضحايا النظام، الذي فتح مخازن أسلحته ليلقيها على رؤوس السوريين -ومن في حكمهم- لا أحد آخر. وليعلن رامي مخلوف ابن خالة بشار الأسد بأن أمن النظام من أمن الاحتلال. وأرسل عشرات الفتية والشبان الفلسطينيين والسوريين إلى حدود الجولان في حزيران/ يونيو 2011، وكأنه يُحاول إعراب تصريح ابن الخالة بإشارات يفهمها “ابن العم”.
حاول النظام قبل عقاب المخيمات واستهدافها وتدمير أكبرها (اليرموك)، أن يستخدمها، ولم يكن ليقبل بأقل من أن تتحول لمستنقعات لتخريج وتأهيل الشبيحة والقتلة، وتعاون معه الفصائل التي رعاها واستخدمها تاريخيًا لتلك الغاية، والتي وقفت منذ المظاهرات الأولى إلى صف الأسد بتصريحات إعلامية وسياسية، على الأغلب حماية لما تبقّى من مصالح و”ذرائع” لوجودها الشبحي، أو محاولة لاستعادة بريقها وإنعاشها بعد غيبوبة عميقة. حين اختارت قطاعات من الفلسطينيين خيارات أخرى غير خيارات النظام، حتى لو لم تكن منحازة للثورة، وتضامنت مع الجرح السوري كما تقتضي خصوصية تلك العلاقة، وانسجامًا مع البعد الأخلاقي لثورة الفلسطينيين وقضيتهم، وبعد أن نظر قسم لا يُستهان به من الفلسطينيين إلى أقرانهم السوريين كشعب طالب بحرية مستحقة من نظام غاية في الفاشية، وبعد رفض المجتمعات الفلسطينية في سورية أن تخذل السوريين بالمشاركة في قتلهم وقمع ثورتهم، قام بشار الأسد برفقة تلك الفصائل والقوى الطائفية المستجلبة بإدخالها إلى نفق الموت والتدمير، قتلًا قصفًا اعتقالًا وتعذيبًا، القتل بسلاح الجوع، وتشريد نحو مئتي ألف منهم إلى شتات جديد. تصفية الفلسطينيين في سورية تقع في ظل لا مبالاة تاريخية، و”تواطؤ عقائدي”، من قبل قيادة السلطة ومنظمة التحرير، فقد ظهرت بعيون شعبها وكأنها مرتاحة وراضية لدور الأسد في القضاء على سورية والوجود الفلسطيني فيها، وتقدم أولويات عدة على قضية اللاجئين (على الأقل سلامتهم الجسدية والمجتمعية)، كالدولة والحدود والاستيطان… إلخ، وتتعامل مع “التنسيق الأمني” مع الاحتلال، سبب مصائب الفلسطينيين الأساسي، بأهمية أكبر من حماية شعبها، بغض النظر عن مكان وجوده.
سلطة تُحابي الأسد نكاية بحماس، وطمعًا في مكاتب مصادرة منذ الثمانينيات، وفصائل مصابة بعجز تاريخي ويحكمها منطق ارتزاقي، لتكون النتيجة مشهدًا غاية في السوداوية والدموية -إن لم نقل مهزومًا- فلكل مجموعة من الفلسطينيين أينما كانوا وحشًا موكلًا بنهشهم وتكسير عظامهم، وكل منها مصابة بالذعر من وحشها، وما يزيد المشهد مأساوية أن هناك فلسطينيين يقطعون من لحم إخوتهم في الأقفاص، ويقدموها للوحوش، المرير هو أن تُنكر مجموعة من الفلسطينيين على مجموعة أخرى، فلسطينية أم غيرها، بأن اللحم بين أسنان ذاك الوحش هو لحمها، أو الدم على وجه الأسد ويديه هو دمها.
في يوم التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني، لا ضير أن يكون المرء متضامنًا مع فلسطين، ومع آلام وعذابات السوريين والفلسطينيين اللاجئين في سورية ومخيماتهم، والمصريين، واليمنيين، والنوبيين، وكل الشعوب والمجموعات المضطهدة، من أي اضطهاد كان.
المصدر