on
حين يتماهى الصحافي مع رجل الأمن: سورية نموذجاً
لا تشكّل حادثة إهانة مراسلة تلفزيون النظام السوري كنانة علوش قبل أيام من جانب محافظ حلب سابقة في طبيعة العلاقة بين الصحافي ورجل السلطة لدى النظام السوري، حتى قبل اندلاع الثورة في البلاد قبل أكثر من خمس سنوات، وهي علاقة ظلت محكومة، ليس بالتبعية المطلقة وحسب، بل بمفهوم مستقر لدى أقل موظفي النظام شأناً بأن الصحافي هو مجرد بوق يصدح معنا، ومن غير المسموح له أن يرتقي لأن يكون شخصية اعتبارية تلعب بمفردها دوراً ما في الحياة العامة.
وحين اعترضت علوش على منعها من إتمام عملها وشتمها من جانب المحافظ، لم تكن تتكئ على قوة مكانتها الاعتبارية كصحافية يحميها القانون، بل على قوة علاقاتها مع الأجهزة الأمنية، بينما اعتمد صحافي مثل رضا الباشا مراسل قناة الميادين اللبنانية الممولة من إيران حين كشف الجهات التي تسرق بيوت أهالي حلب على علاقاته مع إيران وحزب الله وكونه ينتمي إلى الطائفة الشيعية.
ولعل حادثة سابقة لذلك بأيام وقعت مع مراسل التلفزيون السوري شادي حلوة والضابط في جيش النظام سهيل الحسن الملقب بـ “النمر”، تشكل نموذجاً لهذه العلاقة القديمة، والتي تكرست خلال السنوات الأخيرة بين النظام والصحافيين ليس بوصفهم موالين للسلطة ككل وفق المفهوم “القديم” للموالاة والسائد في عموم المنطقة العربية وحسب، بل بوصفهم تابعين لشخص أو جهاز محدد في السلطة يقوم بحماية الصحافي وتسهيل عمله، مقابل توجيهه واستخدامه في الاتجاه الذي يريده.
وحين انزعج سهيل الحسن من المراسل حلوة (وكلاهما من المفترض يوالي نظاماً واحداً) قال له “اذهب إلى معلمينك” أي إلى الجهة التي تتبع لها (كي تعلمك حسن الأدب مع المعلم الأكبر لهما وهو بشار الأسد)، وذلك بعد أن أراد المراسل تصحيح الهتاف ليكون لسورية وليس لبشار الأسد، فكان الرد العفوي عليه من جانب الحسن: “بشار هو سورية، روح لعند معلمينك”.
في ثمانينيات القرن الماضي قال مدير وكالة الأنباء الرسمية “سانا” الصحافي والشاعر صابر فلحوط، لطلاب في كلية الإعلام، جاءوا لزيارة مقر الوكالة، عن رؤيته لدور الإعلام في المجتمع إن “الصحافة هي صدى لآلية الدولة عندما تتحرك”، وهو كلام ينطلق من “الفهم القديم” للتبعية، والقائم على التبعية للدولة والحكومة والنظام بشكل عام، باعتبار الرجل ينتمي إلى حقبة تقدس هذه المفاهيم، وظل مخلصاً لها حتى عزله أو اعتزاله بعد سنوات طويلة قضاها في المنصب.
لكن مفهوم الموالاة تغيّر بعد ذلك كثيراً، وبات يتطلب التعمق أكثر في مفاصل النظام، إذ لا يكفي أن يكون الصحافي موالياً للنظام كله، كي يحظى بالحماية والامتيازات، وعليه أن يختار جهة نافذة محددة، وربما أكثر من جهة، “يسلمها نفسه”، لتديره كيف تشاء، وتعطيه في المقابل تسهيلات ومعلومات ومنافع عدة.
ولعل معظم، إن لم يكن جميع، الصحافيين ممن كان لهم حضور فاعل في الساحة السورية قبل
الثورة وبعدها أيضاً، سواء كانوا سوريين أم عرباً أم أجانب، خاضوا مثل هذه التجربة بهذا القدر أو ذاك، حيث لا يمكن لصحافي في سورية أن يحصل على معلومات ذات معنى، وتكون له اتصالات مع المسؤولين وصناع القرار، من دون أن تتولّاه جهة ما مقابل ثمن يكبر أو يصغر بحسب وزن ذلك الصحافي ومكانته والدور الذي تأمله منه الجهة الراعية، ومدى قوة هذه الجهة نفسها.
ثم تطور مفهوم الموالاة بعد الثورة بالنسبة لمجموعة من صحافيي السلطة باتجاه التخلي التدريجي عن وظيفتهم التقليدية ليكونوا أقرب إلى توصيف الموظف الأمني – قسم الإعلام، حيث انخرط بعضهم بوعي أو من دون وعي في مهام رجل الأمن التقليدية من مراقبة الخصوم إلى تصويرهم وتحطيم معنوياتهم، بل والمشاركة الفعلية في تعقبهم وقمعهم والقبض عليهم، مع ما يتطلب ذلك من ارتداء البدلة العسكرية وحمل السلاح. وبرز في بداية الثورة صحافيون وصحافيات يطاردون المتظاهرين وبيدهم عصي ومسدسات، بينما كان رجال الأمن بعتادهم الكامل يشربون القهوة في مقصف الجريدة، في تبادل مذهل للأدوار.
هذه التماهي التام بين الصحافي والسلطة بمفاهيمها القديمة، أو المخصصة، يحيل الصحافي إلى استطالة باهتة للسلطة أو حتى لأحد رموزها، بمفهومها الضيق، بينما يتولى رجل الأمن أو رجل السلطة تحديد مهام الصحافي اليومية والدقيقة، من دون أن يكون بمقدور الصحافي المفترض هنا ولو للحظة، الانفكاك من هذه العلاقة أو التحلل منها، وهي علاقة لا حدود لانحداره فيها مهنياً وأخلاقياً، حتى يصبح التقاط صور “سيلفي” من جانب أحد الصحافيين أو الصحافيات أمام جثث الخصوم كما حدث غير مرة، حدثاً لا يثير الاستغراب، ما دامت عملية تبادل الأدوار تتم برضى الطرفين، وهو توافق لا يخدشه سوى مقدار “تهذيب” رجل السلطة، إن أراد، كما فعل العقيد النمر حين اعتذر من المراسل حلوة لأنه نهره أمام الحشد، وأمام الكاميرا، ويصبح محل اهتمام هذا الصحافي، ليس الحصول على معلومة يستخدمها كسبق صحافي، بل كتم هذه المعلومة، وتنبيه “معلمه” إلى خطر نشرها وانتشارها.
صدى الشام