سورية وأوراق “هيرتسليا” المقبل


مصطفى الولي

استمرت الرؤية الإسرائيلية لتداعيات الأوضاع في سورية متحركة؛ فمنذ انطلاق الثورة في آذار/ مارس 2011، اعتمد الاستراتيجيون الإسرائيليون على مقاربات تقوم على الاحتمالات، ولكل احتمال خطة للتعامل، تمليه النظرة – النظرات إلى آثار كل احتمال على ما يدعى في إسرائيل بـ “الأمن القومي الاستراتيجي”، وأبقت خطابها نحو سورية في دائرة ما يمكن وصفه بـ “الغموض البنّاء”.

في السنوات السابقة، لم يظهر في طرح الخبراء الاستراتيجيين الذين شاركوا في مؤتمر هيرتسليا، أي اتجاه يقوم على الرغبة بسقوط نظام بشار أسد، وأقصى ما ذهب إليه بعضهم حدوث عملية داخل مؤسسة الجيش والأمن، تنهي الرأس وتبقي بنية النظام. إلى جانب احتمالات أضعف تقول بإمكانية نجاح الجيش الحر بالسيطرة الواسعة على الأراضي السورية، وبقاء سلطة بشار في مناطق ضيقة، وهنا كانت فكرة احتمال التقسيم للبلاد.

كان الملاحظ في مناقشات الخبراء الاستراتيجيين الإسرائيليين وأصدقاء إسرائيل، في مؤتمرات هيرتسليا الخمس، بعد انطلاق الثورة السورية، تحييد احتمال قيام سورية الديمقراطية، والتعتيم على كل المعطيات الأولى التي بدا فيها الاستحقاق السوري الديمقراطي، وساعد -في ذلك- رغبة إسرائيل في التعتيم على الملامح المدنية الديمقراطية في الأطياف السورية المناهضة للنظام، وبروز دور الجماعات السلفية في المشهد السوري، كقوة لا يستهان بها.

المؤتمر المقبل (هيرتسليا) لم يُحدد موعده بعد، وهو -عمومًا- لا يُعقد في تاريخ محدد وثابت. بعضه انعقد في كانون الأول/ ديسمبر، والمتوقع ألا يُعلن عن موعده قبل اكتمال عملية انتقال الرئاسة في واشنطن للرئيس المنتخب، ترامب، وتشكيل إدارته إلى جانب إعلان برنامجه لفترة رئاسته الأولى.

الفرصة الذهبية التي تقدمها إدارة ترامب للاستراتيجيين الإسرائيليين، هي التغيير المتوقع في العلاقة الأميركية مع طهران، بخصوص الملف النووي الإيراني، وطالما انصبت التوقعات على احتمال إلغاء الاتفاق، أو وضع إدارة ترامب شروطًا متشددة للإبقاء عليه، فإن الترجمة العملية لمثل هذا الموقف على الأزمة التي تمر بها سورية، تعطي لإسرائيل فرصة جديدة لحسم خيارها في دعم فكرة استمرار نظام بشار. والمعروف أن الدور الإيراني في سورية أخذ مداه بعد الاتفاق النووي في عهد إدارة أوباما، وهو ما شكّل تعقيدًا إضافيًا لصانعي السياسة الإسرائيليين، منع من حسم رؤيتهم لمقاربة الموقف من مستقبل الصراع المحتدم في سورية وعليها، ومع تقهقر الدور الإيراني يفكر الاستراتيجيون في هيرتسليا بملء الفراغ.

بمعنى آخر يصبح الطريق مفتوحًا للخبراء الإسرائيليين لبناء موقف يدعو الحكومة لاحتضان نظام الأسد. ليس ذلك لخوف إسرائيل، كما يرى بعضهم، من الخطر العسكري الإيراني، بما فيه النووي. فالتناقض الإسرائيلي – الإيراني في المنطقة مبني على استراتيجيات النفوذ، ولا تقبل إسرائيل بقوة تقاسمها السيطرة الاستراتيجية على القرارات في دول المشرق، أو التأثير علي مكانتها وإضعافها، فقوة إسرائيل على المستوى الدولي، تقوم في أحد عناصرها الفاعلة، على وزنها المؤثر في تقرير مسارات الدول في المنطقة. وسبق في الثمانينيات أن اعترضت إسرائيل على الصفقة الأميركية – السعودية لتزويدها بطائرات الأواكس، التي لم تكن ستستخدم ضدها.

ولن يجد الخبراء الإسرائيليون في الدور الروسي في سورية؛ ما يعيق التحالف بينهما، والمعروف أن بوتين أخذ موافقة نتنياهو على دور روسيا العسكري في دعم نظام بشار، وتعلم إسرائيل ماتريده روسيا من تدخلها في سورية، ولا تخشى أن يؤثر سلبا في دورها في الدول العربية. فالتدخل الروسي يهدف تغيير التوازنات مع الدول الكبرى على المستوى الاستراتيجي. وهذا الجانب لا تهتم به إسرائيل إلا في حالة واحدة، إذا وجدت واشنطن في هذا الدور في الأزمة السورية أمرًا يجب تحييده وكف يد موسكو عن توظيفه في الصراعات الشاملة، وذلك مستبعد على المدى المنظور.

كما أن خبراء إسرائيل الاستراتيجيين على دراية باستعداد نظام بشار للتخلي تدرّجًا عن الارتباط بإيران، مقابل اعتماده إسرائيليًا. وجرَب النظام، -منذ بداية الثورة- إرسال رسائله إلى القيادة الإسرائيلية، لتأكيد الأمن المشترك بينهما بذريعة ” خطر الإرهاب” على أمنها، إن تدهورت حال السلطة في دمشق. ومن الآن؛ وحتى انعقاد مؤتمر هيرتسليا، هناك تطورات جديدة، لا بد من أن يأخذها المؤتمرون في الحسبان.

ليست وظيفة مؤتمرات هيرتسليا وصلاحياتها اتخاذ القرارات الملزمة للحكومات الإسرائيلية، مع ذلك، وبحكم طبيعة تشكيلها، تعدُ توصيات المؤتمرين موجهًا أساسيًا لسياسات “الدولة”، فأعضاء هيرتسليا هم جنرالات سابقون ورؤساء أركان ومسؤولون عن أجهزة الأمن، إضافة إلى مفكرين وأكاديميين وخبراء اقتصاد، وعدد من النخب الغربية التي تمتلك الخبرات في العلاقات الدولية، وتهتم بالمصالح العليا لدولة إسرائيل. وعادة عندما يتزامن انعقاد المؤتمر مع استلام الإدارة الجديدة في واشنطن لمهماتها، تكون للمؤتمر أهمية استثنائية، فهو يأخذ على عاتقه تحديد الاتجاهات الفضلى للتعامل بين إسرائيل والرئيس الجديد وإدارته.

في العام 2017، تكون إدارة ترامب قد باشرت خطواتها الأولى، والإسرائيليون هم الأقدر على تفهم معانيها وتأثيراتها. وسيتزامن انعقاد المؤتمر في هيرتسليا مع تغييرات أكيدة في برنامج إدارة ترامب؛ وحتى اللحظة، هناك غموض في الموقف من نظام بشار، وبعض الوضوح في الموقف من إيران، شاخصه: الموقف من الاتفاق النووي. فهل تكون المرحلة المقبلة في التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي نحو سورية مبنية على خطة مشتركة بين ثلاثة أطراف: واشنطن، موسكو وتل أبيب؟

على العموم لن يكون هيرتسليا المقبل محكومًا بمخاوف وأخطار مباشرة آتية من سورية، فما تداعت له الأوضاع فيها، يجعل الاستراتيجيين الإسرائيليين بمنأى عن المخاوف، وأقرب إلى كيفية قطف أكثر الثمار قطفًا أفضل؛ فمنذ صفقة الكيماوي مع النظام، واستباحة إسرائيل للأجواء السورية، وقيامها بتدمير ما عدته يمس جوانب من أمنها (أسلحة إيران، وقواعد صاروخية سورية، واغتيال شخصيات من حزب الله وأعوانه، وسوى ذلك) تسعى إسرائيل لتحقيق مزيد من المكاسب، وقدم لها النظام -بسلوكه- في تدمير البلاد وتمزيقها، أفضل الفرص للاختراق وجني الثمار.

وسننتظر أوراق هيرتسليا المقبل.




المصدر