on
سيرة الأمكنة والشتات ومعنى الهويّة الفلسطينية سليم البيك لـ “جيرون”: “تذكرتان إلى صفوريّة” حكاية جيل ثالث
أوس يعقوب
صدر حديثًا، عن “دار الساقي” في بيروت، رواية “تذكرتان إلى صفّورية” للكاتب الفلسطينيّ السوريّ سليم البيك. يروي فيها السارد حكاية جيل ثالث من الفلسطينيين، صنع لجوءه الخاص.
تقع الرواية، التي ستُطلق في معرض بيروت للكتاب في الفترة ما بين 1 و14 من الشهر المُقبل (كانون الأوّل/ ديسمبر)، بحضور المؤلف، في 240 صفحة من القطع المتوسط، وهي واحدة من سبع روايات تصدر عن الدار اللبنانية بالتعاون مع مؤسسة «آفاق» ضمن برنامج الدورة الثانية من «آفاق لكتابة الرواية»، تحت إشراف الروائيّ اللبنانيّ جبّور الدويهي.
“تذكرتان إلى صفّورية” هي الرواية الأولى للبيك، وتتكوّن من ثلاثة فصول متقاربة في الحجم، عنونها الكاتب بـ “مارًّا بتولوز” و”مارًّا من اليرموك” و “مارًّا مع لِيا”، إضافة إلى “إبيلوغ” من صفحات قليلة تُنهي الرواية، بعنوان “مارًّا إلى صفّورية”.
ويحكي كلّ فصل مرحلة من حياة الشخصيّة الرئيسة، “يوسف”، على نحو متداخل؛ إذ يحوي كلٌّ منها إحالات إلى الأخرى، ولكلّ فصل ثيمة رئيسة، تغدو فرعيّة في الفصول الأخرى.
يقول سليم البيك عن روايته الجديدة في تصريح خاص لصحيفة جيرون: “يمكن القول بأنّ الرواية في قسم كبير منها، هي حكاية جيل ثالث من الفلسطينيين، صنع لجوءه الخاص. قلت: في قسم كبير؛ لأنّ فيها حكاية حب ذاتية جدًا، تخص -كأي حكاية حب- الشخصية الرئيسة، يوسف، وحسب. لكن يوسف أتى، كالكثيرين اليوم، من سورية إلى أوروبا، وهو فلسطيني، أي أنه يكمل لجوءًا بدأه جدّه عام النكبة ثم أبيه في أوائل الثمانينيات”. ويتابع قائلًا: “الحكاية الشخصية لفلسطينيي سورية، لكل فرد منهم، هي حكاية فئة من الناس، هم من مكونات الشعب الفلسطيني لكنهم في الوقت ذاته من مكونات المجتمع السوري، والآن يصير الكثير منهم، إضافة إلى هذه وتلك -وليس بديلا عنهما- واحدًا من مكوّنات المجتمعات الأوروبية، حيث وصلوا -أخيرًا- فرنسا، ألمانيا، السويد… إلخ. ويوسف أحد هؤلاء، واحد منهم له قصته الشخصية كما لكل واحد من هؤلاء قصته الشخصية الجديرة بأن تُحكى”.
يضيف البيك: “بهذا المعنى يمكن القول بأن في الرواية عناصر من السيرة الذاتية، بالمعنى المجتمعي العام، لفلسطينيي سورية، كما بالمعنى الشخصي جدًا لدي ككاتب لهذا النص. لكن هذه العناصر لا تضيّق على الخيال في كل تفصيل منها، بل كانت عناصر مؤسسة أو مكمّلة لخيال ضروري تُبنى به الحكاية والشخصيات، استندت على ما أعرفه أكثر من غيري وما أعرفه أكثر من أي شيء آخر، حياتي الشخصية كواحد من هؤلاء، وعلى حياة بعض هؤلاء، للوصول إلى حياة يوسف المكتوبة بخيال تام”.
…
الزمن الحاضر في الرواية هو حياة “يوسف” في تولوز، بضع سنوات إثر وصوله إليها لاجئًا، أمّا ما سبق ذلك زمانيًّا، أي حياته في مدينة دبيّ ومخيّم اليرموك، فيأتي على شكل استعادات.
لكل فصل ثيمة رئيسة وتكون هذه الثيمة الرئيسة فرعيّةً في الفصول الأخرى.
يتناول “مارًّا بتولوز” السنين الأولى ليوسف لاجئًا في فرنسا، والوحدة التي يعيشها، غريبًا عن المكان وعن ناسه، ويتناول “مارًّا من اليرموك” خروجه من المخيّم ورحلة اللجوء إلى أوروبا، وتتخلّل ذلك أفكار عن الشتات الفلسطينيّ الثالث واللا انتماء لأيّ مكان أو مجتمع، وكذلك الهويّة الفلسطينيّة بالنسبة ليوسف وللكثير من فلسطينيّي سورية. أمّا “مارًّا مع لِيا”، فيتناول لقاءات متتالية مع فتاة في المدينة، في محطّة الباص، ثمّ حديثه معها لأوّل مرّة ودخولهما في علاقة ستكون الرواية قد أحالت إليها في الفصلين السابقين، فنعرف لِيا جيّدًا قبل السرد المسهب للقاءاتها الأولى.
الأمكنة في حياة يوسف ممرّات توصله إلى مكانه الأصلي، صفّورية، فيمرّ بتولوز ويمرّ من اليرموك ويمرّ مع لِيا، ليمرّ أخيرًا إلى صفّورية، منهيًا دورة اللجوء التي بدأت بجدّه، قبل سبعين عامًا، واستمرّت مع أبيه.
نعرف، في معظم الفصول، عن حياة يوسف الجديدة أو لجوئه الجديد، ونعرف عن معنى الهويّة الفلسطينيّة لديه، كما نعرف عن لِيا.
قد تكون الرواية قصّة حبّ في سياق الحالة الجديدة لفلسطينيّي سورية، أو قد تكون رواية عن تلك الحالة في سياق قصّة حبّ. وقد يكون يوسف الشخصيّة الرئيسة أو قد تكونها لِيا من خلال يوسف.
ونقرأ من أجواء الرواية: “لم يكن يعرف أنّ هنالك كاتو اسمه مادلين قبل مجيئه إلى فرنسا، يعرف أنّه اسم نسائي، بخاتمة جميلة تُرخي الأعصاب، ماد لييين، مع تسطيح الياء قليلًا. كما كان يعرف أن كليمانتين اسم نسائي كذلك. لكنّه في متجر كازينو الكبير وجد حبّات الكَرَمَنتينا مكتوب عليها كْليمانتين، هكذا إذن تحوّل الاسم السكسي للفاكهة سهلة التقشير إلى الاسم البهلواني عندنا، بعد تبديل اللام بالراء وتحريك بعض الأصوات فيه ومطّها.
ما جذبه في المادلين كان بدايةً اسمه. ولأنّه يحب الكاتو وكل ما يُعجن ويَخرج من الفرن حُلوًا، حفظ بسرعة أسماء معظم ما تعرضه المخابز على واجهاتها من الكاتو على أنواعه، من بينها المادلين الذي تميّز عن غيره من المعروض بأنه موجود في متجر كازينو في كيس بلاستيكي يزن كيلوغرامًا، للحبّة فيه ثلث حجم الحبّة في المخابز، وقد تكون خُبزت قبل أسابيع، وهي الآن تُعرض في أكياس مكوّمة فوق بعضها، تُباع كلّ عشرين حبّة في كيس. لكنّ للكيس سعر حبّتيْن كبيرتيْن وطازجتيْن، من تلك المعروضة في المخابز. حبّتان وإن خُبزتا قبل ساعة أو اثنتيْن، وإن لم يمسّهما كيس بلاستيكيّ، لن يسمح سعرهما بأن تكونا فطورًا ليوميْن أو وجبة مسائيّة. لم يجرّب أن يشتري واحدة من مخبز، يستغليها في كلّ مرّة. لكن منذ اكتشافه هذا الاسم الأنسب لامرأة في فيلم فرنسيّ منه لحبّة كاتو، منذ اكتشافه له ملفوفًا بالأكياس الثرثارة بصوتها المتبعثر؛ كلّما مُسكت، صار في مشواره الشّهري إلى المتجر يسحب من بين الكَومة كيسًا مليئًا بالمادلين ويحمله، ويعود مارًّا بالمخبز في الطريق إلى البيت.
سيحبّ يوسف أن تكون المادلين التي يعرف مذاقها ويحبّه، من تلك المعروضة في المخابز، تلك الممتلئة المسحوبة كالأفخاذ، الصفراء المحمَّرة أطرافُها، المدهونة بالزبدة، المكشوفة مفاتنها إلى الناس، تلك التي تعيش في المخبز مطلّة على الرصيف والمارّة والحياة، لا الناشفة المخبأة في العتمة المحفوظة في كيس منفوخ مرميّ بين عشرات الأكياس في كلّ منها العدد ذاته من حبّات متطابقة في الشكل والطعم، أُعدَّت في قوالب معدنيّة لا بيدَي وأصابع صاحبة المخبز المجاور التي لم يعرف يوسف وجهها إلا مبتسمًا.
سيقول لنفسه بأنّه حين يغمّس حبّة المادلين في فنجان الموكا سيخفّ طعمها بتأثير القهوة الداكنة الكثيفة، ستغلبه القهوة، وسيتقارب بذلك طعما المادلين المُعدّة في المخبز الصغير في الحيّ المعروض منها حبّتان أو ثلاث، وتلك المحفوظة مع مئات غيرها في مخازن عملاقة.
يعرف جيّدًا أن الطعم لا يتقارب، وأنّ اللذة المتواضعة التي يجدها في حبّة المادلين الناشفة لن تكون أبدًا كالتي يمكن أن يجدها في حال تذوّق من تلك المعروضة في المخبز الذي يمرّ به، وبها وبكل ما يعرضه من الكاتو، وإن غمّس الحبّتيْن في القهوة ذاتها. ويعرف جيّدًا أنّ فيه عادة إقناع ذاته بأفضليّة ما يستطيعه، وبأنّ ما لا تطاله يداه ليس الأفضل بالضرورة وإن رغب به، فهنالك دائمًا تفسيره المتفلسف للتقريب بين ما لا تطاله يداه وبين ما في متناول يديْه، وأخيرًا يقتنع بذلك، بأنّ القهوة تزيل طعم المادلين أو على الأقل تزيل الفروق بين الجيّد منها والسّيئ. سيقول لنفسه بأنّ ما لديه من حبّات معبّأة في كيس ليست سيّئة وليست الأفضل، وهذا الفارق بين الليست سيّئة والليست الأفضل يذوب مع القهوة. كما أنّ القهوة ذاتها، تلك التي تُعدّ بماكينات خاصّة، ليست بالضرورة أفضل مما يعدّه هو في إبريقه، وإن لم يخفِ مرّة رغبته بماكينة الاسبرسّو، لكنّه يردّد لنفسه بأنّ الإبريق أكثر حميميّة، تتنشّق أولًا من رائحة البن، فلا كبسولات مغلقة هنا، وتضع القهوة بيديْك بالقدر الذي تريده، وإن أربكتْك الملعقة الخامسة، ثم تسمع صوت الماء يغلي وليس صوت الماكينة تدور.”
يُشار إلى أن الكاتب سليم البيك فلسطيني سوري، وهو يعيش في فرنسا منذ سنوات، ويكتب في الصحافة الثقافيّة بعامّة، وتحديدًا في النقد السينمائيّ، ويحرّر مجلّة «رمّان» الثقافيّة الفلسطينيّة. وقد صدر له قبل هذه الرواية “خطايا لاجئ” عام 2008 عن دار كنعان بدمشق، وهي نصوص نثريّة، و”كرز أو فاكهة حمراء للتشيزكيك” عام 2011 عن الدار الأهليّة بعمّان، وهي مجموعة قصصيّة، حازت على “جائزة القطّان” في مدينة رام الله، و”ليس عليكِ سوى الماء” عام 2014 عن دار راية في مدينة حيفا بفلسطين المحتلة، وهي قصائد، ولسليم مدّونة ينشر فيها كتاباته.
المصدر