عن فيدل كاسترو والثوار الذين ألهمونا


حكم البابا

لزمن طويل شكَّل فيدل كاسترو قائد الثورة الكوبية، ومعه أرنستو تشي غيفارا، الحلم الأكثر شهرة واتساعاً وحرارة في أوساط اليسار العالمي، لكنه وهو يختفي اليوم يبدو أقرب إلى الجيفة التي يتخلص منها العالم، منه إلى الأسطورة التي ترحل وسط بحر من الدموع والأحزان أسفاً على مغادرتها للعالم.

ومن المؤكد أن شقيق كاسترو راؤول الذي تسلَّم الحكم في تداول عائلي للسلطة، يذكّر بالملكيات والسلطنات والإمارات، أكثر من شبهه بالجمهوريات والثورات، خلفاً لفيدل الذي أقعده المرض، سيفرض في كوبا حالة من الحزن والحداد على رحيل قائد الثورة الكوبية ورمزها، لكن قلّة من بين الذين سيظهرون هذه المشاعر يأسفون حقيقة لرحيل فيدل كاسترو، بينما الغالبية العظمى من الكوبيين ستشعر أن الرجل الذي خلف باتيستا ديكتاتور كوبا الذي ثار عليه كاسترو وخلّص منه السلطة، جعلهم يستعيدون ذكريات زمن باتيستا باعتباره حلماً عذباً مرت به كوبا، بالنظر إلى كم الفظائع والجرائم والقمع الذي مارسته الثورة الكوبية مقارنة بزمن باتيستا.

حدث هذا في كل الدول التي عانت من حكم أنظمة شمولية مجرمة، جاءت غالباً عبر ثورات يسارية رفعت شعارات تحقيق العدالة والمساواة، لكنها حولت البلدان التي حكمتها إلى سجون كبيرة، والشعوب التي تحكمت بمصائرها إلى معتقلين محكومين باليأس والإحباط والموت، وقضت لسنوات طويلة بعد رحيلها على أي استقرار ممكن في تلك البلدان، بفعل التشوهات التي أحدثتها في نفوس البشر، والتفرقة والعداوة التي زرعتها فيما بينهم، وهو ما لم تفعله الأنظمة التي سميت رجعية في مصطلحات الأنظمة التقدمية التي جاءت عبر تلك الثورات.

لم يستطِع الحكم القمعي للسلطة السوفييتية مع كل ما تملكه من مخابرات وجيش وأجهزة تعذيب أن يستمر لأكثر من سبعة عقود فانهار، وحمل معه إلى الجانب الأسود من التاريخ البشري ديكتاتوريات جيفكوف في بلغاريا، وهونيكر في ألمانيا الشرقية، وتشاوشيسكو في رومانيا، ويازورلسكي في بولونيا، وعلى الجانب العربي انتهى جمال عبد الناصر وصدام حسين وحافظ الأسد ومعمر القذافي وعلي عبد الله صالح، لكن تأثيرات أنظمتهم لا تزال باقية، سواء في السلالات التي خلفتهم، ولا تزال تعاند حركة التاريخ، وتحاول أن تسترد حكمهم أو تحافظ على ما تبقى منهم، أو كم التخريب الذي أحدثوه في بنية مجتمعاتهم التي لا تزال تعيش حروباً دامية، ولم تحسم معركتها بعد، أو في العاملين معاً.

وأية قراءة موضوعية لتاريخ ثورات اليسار العالمي أو التمسّح باليسار التي حدثت في منطقتنا عبر الانقلابات العسكرية غالباً، بعيداً عن نوستالجيا الثورة والتغيير، سيظهر حجم الخراب الذي جرّته الأنظمة الشمولية التي حكمت وطغت وقمعت باسم المشروعية الثورية، وحجم الظلم الذي مارسته وبوحشية شديدة، مقارنة بالعهود السابقة التي انتفضت ضدها، وسيظهر أن العالم كان أقل وحشية ودماءً قبل وصول هذه الأنظمة الثورية إلى السلطة، وأن كل الأنظمة القيصرية والملكية وتلك التي سُميت رجعية التي قامت ضدها الثورات التقدمية (من دون أن ننسى ظلمها ونتغاضى عن عيوبها وانتهاكاتها) كانت أرحم وأكثر أخلاقية من رعاع اليسار الذين انتفضوا ضدها، وتحولوا إلى قياصرة وملوك وأمراء وسلاطين وديكتاتوريين جدد، إنما بدون أخلاق وقيم وتقاليد من انقلبوا عليهم.

هل هذا الكلام يعني أننا لسنا بحاجة للثورات، وأن على العالم أن يبقى مستنقعاً مستقراً جامداً، حتى لو تحولت الأنظمة التي تحكم بلدانه إلى هياكل عظمية؟ إطلاقاً لا، فهذه حركة التاريخ، التي لن يوقفها انتقاد للأنظمة التي سبقت الثورية، أو آخر للأنظمة الثورية، أو ثالث للأنظمة التي ستتلو الثورية، ومن مكان يطل على أولئك الذين يحكمون، والذين ينقلبون على الذين يحكمون باسم الثورة، أو الذين سيتسلمون السلطة من بعد هؤلاء، وليس من مكان داخل أي من هذه الأنظمة المختلفة؛ لأن هؤلاء لا يرون في الحقيقة إلاّ مشروعية مطالبهم، وحقهم في تحقيقها، وقدرتهم على الحكم باسمها للأبد، ولذلك تقوم الثورات ضدهم، ويُنقلب عليهم تحت نفس الشعارات التي انقلبوا بها على من سبقهم.

يموت فيدل كاسترو بعيداً عن القرن العشرين الذي شهد مجده الثوري وصعود الفكر الشيوعي، وشهد أيضاً نهايته وسحله مع تماثيل لينين وماركس في شوارع الاتحاد السوفييتي أولاً ودول ما كان يعرف بمنظومته الاشتراكية ثانياً، بعد أن تحول الحلم الوردي للعدالة الذي بشّر به إلى كابوس كئيب رزح على صدر شعوب الدول التي حكمها، ولا يزال ُيشكّل آلة جهنمية تقوم بتعذيب وتشويه ما تبقَّى من المجتمعات القليلة التي لا يزال يحكمها.

بموت فيدل كاسترو يتخلص العالم من أحد المجرمين الكثر، الذين حكموا عدداً كبيراً من دوله، وبعضهم لا يزال على رأس إجرامه حتى الآن.

“هافينغتون بوست عربي”