on
فلسطين من القرار 181 إلى شاهد على عصر
حافظ قرقوط
إنه القرار 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947، كمحطّة أولى على درب الآلام الفلسطينية، بل درب آلام منطقة الشرق الأوسط برمّته الذي ما زال حتى اللحظة، عبارة عن قنبلة موقوتة قابلة للانفجار الكلّي في أي لحظة، حيث أقرّت الأمم المتحدة تقسيم فلسطين إلى دولتين، إحداها (يهودية) والأخرى (عربية)، مع توضيح للحدود والدستور المتوقع والأماكن المقدسة، وخاصة مدينة القدس وطريقة إدارتها استثنائيًا.
هذا المشروع العنصريّ، المبنيّ، على حسابات دينية (يهودية) لدولة ستنشأ هي (إسرائيل)، وحسابات قومية (عربية) لدولة أخرى هي (فلسطين)، وبقاء القدس، ومعها بيت لحم تحت الوصاية الدولية لحين الاتفاق على شكل وطريقة إدارتها، مع إنهاء قرار الانتداب البريطاني.
رفض –آنذاك- الفلسطينيون القرار، وكذلك العرب، ولكنها مرحلة تاريخية كان فيها العرب والفلسطينيون أضعف من أن يؤثر رفضهم أو قبولهم في صيغة وبنود قرار، دعمت إقراره الدول الكبرى كافّة.
الجميعُ، راقب أو ساعد في تهجير الفلسطينيين من بيوتهم ومدنهم، وأنشؤوا لهم منظمات وهيئات إغاثة، وساهموا -في المقابل- بتسهيل هجرة اليهود من دول العالم كافّة نحو “إسرائيل”، وابتدأ صراع الفلسطيني يأخذ شكلًا آخر، في محاولة منه للبقاء على قيد الحياة، والحصول على حيّز جغرافي يبني عليه مخيمًا، وينتظر المساعدات لتأمين الخيام والأغطية، وبضعة متطوعين يقدّمون دروسًا تعليمية للأطفال، وعدد من الأطباء لتوفير شيء من الرعاية الطبية بالحدود الدنيا، بينما باشرت (إسرائيل) بإنشاء هيكليتها ومؤسساتها كدولة.
حركات التحررّ!
اعتقد كثيرون أنه مع نمو حركات التحرّر في أنحاء العالم منتصف القرن الماضي، سيساعد على تدعيم القضية الفلسطينية، ويدفعها نحو امتلاك أدوات النصر، وبدا أن المعسكر الاشتراكي بقيادة “السوفيات” مؤهلًا لدعم حركات التحرر العالمية، ومنها المنظمات الفلسطينية التي نشأت لاحقًا، ولكن بحسب النتائج، فإن المنظومة الاشتراكية التي لم تستطع أن تنصر قضاياها الداخلية في دولها، وبالذات قضايا الحريّات العامة والحقوق الإنسانية لمواطنيها، وكذلك قضايا التنمية البشرية والاقتصادية الإدارية، وما إلى ذلك، كانت إما أعجز من أن تدفع بالقضية الفلسطينية قُدمًا إلى الأمام، أو أنها لا تملك الرغبة في ذلك، وهذا له علاقة بالذهنية الديكتاتورية التي لا يمكن الوثوق بها، وجزء كبير من هذه الذهنية ساهم في إنشاء بيئة شرق أوسطية ملائمة لنمو إسرائيل وتطورها، خنقت الوجود الفلسطيني برمّته، ومن المعلوم أن أي نمو، إن كان لنبات أو بشر أو لمفاهيم، يحتاج لبيئة صالحة تحيطه، فمن غير المعقول أن ينمو أي جسم سليم في بيئة موبوءة، هكذا كان وضع القرار الأممي الذي أعلن التقسيم.
وضع قضية فلسطين في بيئة مريضة بالأساس، ولم يساهم في حمايتها كما فعل مع (إسرائيل)، ومع بروز قادة عرب لا يحملون مشروعًا فكريًا أو إنمائيًا، وجدوا في قضية فلسطين أهم مادة للتمترس خلفها، وإبراز العضلات السياسية من خلالها، ووجدت (إسرائيل)، بدعم الداعمين، فرصة كبرى، للبكائية السياسية أمام الغرب، ولحيازة قوّة عسكرية تضمن تفوقها العسكري في محيطها العربيّ.
سلسلة التراجع
أول قمة عربية عُقدت بالإسكندرية عام 1946-أي قبل قرار التقسيم- عدّت قضية فلسطين لبّ القضايا القومية، ودعت إلى ضرورة الوقوف بوجه الصهيونية بوصفها خطرًا ليس على فلسطين وحدها، بل على البلاد العربية والإسلامية، ودعت إلى وقف الهجرة اليهودية، والدفاع عن كيان فلسطين ودعم أهلها بالمال والوسائل الممكنة كافة، فيما أكّدت القمة العربية التي عُقدت في الخرطوم في 29 آب/ أغسطس 1967، -أي بعد النكسة- على الثبات باللاءات العربية الثلاث: لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف. وأكدّت على العمل لإزالة آثار العدوان الإسرائيلي، بينما القمة العربية التاسعة، التي عُقدت في 26 تشرين الثاني/ نوفمبر 1973 في الجزائر، بعد حرب 6 تشرين الأول/ أكتوبر، عدّت إقامة السلام مع (إسرائيل) يتطلب انسحابها من جميع الأراضي العربية المحتلة، بما فيها القدس، واستعادة الشعب الفلسطيني حقوقه الوطنية كاملة، وتقديم دعم لجبهتي سورية ومصر بوجه “إسرائيل”، وهنا بدأت لغة السلام تأخذ طريقها إلى القمم العربية، ولكن انتقل العرب من الحديث عن الأرض الفلسطينية، إلى الأرض العربية، وأصبحت قضيتها جزءًا من قضايا عربية مع “إسرائيل”، سيناء والجولان، وفي القمة 11 في الرياض (قمة سداسية)، 1976، طالبت منظمة التحرير الفلسطينية باحترام سيادة لبنان ووحدة أراضيه، بينما في القمة 12 من العام نفسه في القاهرة طالبت دول العالم بإدانة عدوان إسرائيل على لبنان، وفي القمة 13 عام 1978 في بغداد، طالبت بعدم عقد صلح منفرد مع “إسرائيل”، وذلك بعد عقد مصر معاهدة كامب ديفيد للسلام؛ لتقر في القمة 17عام 1982 بمدينة فاس المغربية، مشروع السلام العربي، مقابل انسحاب (إسرائيل) من الأراضي المحتلة، وابتدأت -منذ ذلك الحين- الدعوة العربية إلى إزالة المستعمرات الإسرائيلية من بقية الأرض الفلسطينية، والتأكيد على حق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره، والتعويض على من لا يرغب بالعودة، وفي بيروت عام 2002، أقرّت القمة العربية مبادرة السلام التي تقدّمت بها العربية السعودية، لأجل تطبيع العلاقات مع “إسرائيل”، شرط الانسحاب إلى حدود 4 حزيران/ يونيو 1967، والتي رفضتها “إسرائيل” رفضًا قاطعًا، وما زال العرب يردّدونها.
الدور الوظيفي
لم تبق دوامة القضية الفلسطينية متعلقة بإدارة الصراع مع خصمها الإسرائيلي فحسب، بل من الواضح أن محاولة القادة العرب سحب القضية من يد أهلها، هي الجبهة الأخرى التي اشتعلت ضد الفلسطينيين وأشغلتهم.
ما مارسته هذه الدول، وبالذات ما سمّي بدول المواجهة، بحق الفلسطينيين، لا يقل قسوة عما مارسته الحركة الصهيونية بفلسطين، ومن المرجّح أن دور السلطات التي تتالت على المنطقة، كانت ضمن هذا الدور الوظيفي، بحيث تتبنى خططًا لعرقلة التنمية في بلدانها، وتتبنى شعارات تجعل الممر الحصري والوحيد للفلسطينيين وأحزابهم ومنظمتهم، من خلال مصالح وسياسات هذه السلطات، وبدا أن أي خرقٍ لهذه المعادلة هو بمنزلة خرق للنظام الإقليمي، الذي نشأ ضمن التوازنات الدولية على هذه التفاهمات، والذي لعب لعبة خطرة، مؤدّاها يسير نحو اغتيال القضية الفلسطينية، والتعامل معها كقضية إنسانية لها علاقة بالإغاثة وما يتبعها، وانتقال أهداف أصحابها مع الزمن من موضوع القبول بالقرار 181 والتعامل مع جارة اسمها (إسرائيل)، إلى البحث عن طرق الاحتفاظ بحق تقرير المصير، الذي لم يعد معروفًا أي جيل سيقرر مصيره بعد مرور نحو 69 عامًا على القرار المذكور.
حق العودة، الذي خلطت أوراقه من جديد قوات النظام السوري، وميليشيات المرتزقة الإيرانيين في سورية بعد انطلاقة الثورة، بات أمام تفسير جديد، هل العودة إلى المخيمات التي أنشئت بعد النكسة والهزيمة، كما حصل بعد الحرب الأهلية اللبنانية في العقود الماضية، أم العودة إلى فلسطين التاريخية، وهل يمكن عدّ العودة إلى داخل الحكم الذاتي في الضفة، هو خيار عودة لفلسطينيي 1948 الذين تهجّروا، أم أن هؤلاء ضمن برنامج تعويضات ليس في الأفق، وهل قطاع غزة سيبقى مع الضفة، أم سيُمنح -بدوره- شكل حكم ذاتي كأمر واقع، ليشارك كطرف جديد في المفاوضات مع “إسرائيل”، لتصبح المفاوضات لاحقًا ثلاثية الأطراف، ويصبح القرار 181 من الماضي البعيد، الذي يتكلم عن شعب وأرض تبدّلت ملامحهما. يبدو أننا، للأسف، سنتابع قضية فلسطين كشاهدة على عصر عربي مريض.
المصدر