لقد “كان نائماً حين قامت الثورة”


لا تخلو كتابات الشاعر المصريّ عماد أبو صالح من الاختلاف والمغايرة لما هو سائد، فبنثرٍ خالٍ من الشوائب اللغوية ومليءٍ بالإسقاطات الواقعيَّة، يدوِّن غير مبالٍ بما ستؤول إليه الثورات، وبدءاً من عنوان مجموعته الأخيرة المعنوَنَة “كان نائماً حين قامت الثورة”، الصادرة في القاهرة ربيع عام 2015، يبدو عماد الشاعر كسولاً لدرجة أنّ العالم العربي يعيش ربيع الثورات إلّا أنّه بقيَ نائماً!! في اللغة، النوم لا كحالةٍ فيسيولوجيَّة، وإنَّما كحالةٍ حقيقية للوعي، آثر الشاعر أن يبقى مع كائناته وكتبه والورق النّاصع، البقاء مع الخطأ الذي يؤسِّس لبقاء الإنسان ويعطيه الديمومة فعليَّاً، أن يمدح الخطأ كحالةٍ صائبة لا غبار عليها مطلقاً، فلولا الأخطاء لما كانَ الإنسان ولما كانت الولاداتُ المستمرَّة:

“تحيَّة خاصَّة لك يا يهوذا، يا إمام الخطّائين، يا خالداً في اللعنة، لولاك ما كان مجدُ المسيح”.

وعلى نفس الوتيرة كما في مجموعاته السابقة، يرسم أبو صالح الكلمات بريشةِ اليوم والمُعاش والبسيط، دون أن يترتّب على ذلك أيُّة حكمةٍ تُذكَر، إنّهُ كلامٌ، وكلامٌ فقط لا أكثر ولا أقلّ يدوّن في حالةِ ضجر أو في حالة غضبٍ ما مجهولة المصدر!، بالأدوات النحتيَّة لغةً – والتي بدأت منذ أوّل ديوان نثريّ له – باتَ عماد يرسم لنفسه خطَّاً مختلفاً في عالم الكتابة، ثمّة شعورٌ بأنّه قرَّر أن يكونَ على الطرف القصيّ من العالم، أن لا ينجرّ مع ما هو شعبي ورائج، أن يكون مع الكتب وأن يتحاور مع شخصيَّاتٍ كانت حقيقية وغدت خياليَّة، غير أنّها توضح ذاتها بكل يسرٍ أمام أعين الشاعر المتعدِّدة، أن يكونَ الشاعرُ عين العالم الثالثة وذاكرة البؤس وذمّ كل ما هو جيّد في نظر الآخرين!، كما وأن يكونَ القريبَ ممّا يحصل في داخله الشخصانيّ.

العصا والشجرة

النظرةُ المختلفة إلى الأمور الحياتيَّة التي ننظرُ إليها بعين اليقين، تغدو في أجواء “كان نائماً حين قامت الثورة” متحوّلةً إلى النقيض، الاستخدام غير التقليدي للعناصر الطبيعية يَهبُ النصَّ دهشةً ما موزّعة بالتساوي على نصوص المجموعة:

“ما هي العصا؟/ غصن شجرة،/ ما طاولة التعذيب؟/ غصن شجرة،/ ما الصليب، ما الباب الذي يحجبُ الهواء، ما هو النّعش؟/”.

وفي نصّه الأساسي “ذمّ الثورة” والذي هو الحامل الأقوى للمجموعة برمّتها، يغدو الشاعر على صورته الحقيقيَّة، السلبيَّة إزاء الأمور الجيَّدة من وجهة نظر العالم، فمفهوم الثورة لدى الشاعر مختلف ها هنا، إنّه يحنُّ على المسكين الذي جُرِف مع تيَّارات الثورة، ربمّا لا يُطلَبُ من الشاعر أن يكون حكيماً، فقط يُملَى عليهِ ما يدوّن من غامضٍ قابعٍ داخل ذاته، هذا هو التفسيرُ الوحيد لحالات الذم في أجواء المجموعة كاملةً:

“عجوزٌ نحيل/ لا يقوى –أصلاً- على الذهاب للحمّام/ جرفتهُ الثورة إلى هنا/ ليصبح ثائراً رغماً عن أنفه”.

ربما حكاية العجوز الذي أجبروه على أن يتحوّل إلى ثائرٍ رغم أنفه، متوفّرة في كل رقعةٍ من الرقع الجغرافية العربية التي خاضت الربيع العربيّ، حكايةٌ حوّلت إلى قصيدة، حكاية يمكن الاستناد عليها للوصول إلى النتيجة الزائفة للثورات، على الأقلّ تناولاً شعريَّاً، كما أنّ حكاية حبّ الاضطهاد لدى جزءٍ لا بأس به من البشريَّة تغدو واضحةً في كتابة عماد أبو صالح، الأخير الذي، وعلى طول عمره الكتابيّ، يمتلك نظرة خاصَّة ومتمرّدة.

وفي إشارةٍ إلى النزاع الدمويّ القائم منذ بداية الخليقة وحتّى الوقت الرّاهن يأتي نصّ الشاعر الموسوم بعنوان: “قابيل وهابيل”، كنوعٍ من التنبؤ بما سيكونُ عليه الوضع في القادم طالما أنّ الأوضاع ليست على ما يرام في الوقت الحاليّ، استمرارٌ للأذى وحبّ الذات لدى البشرية كمرضٍ مستشر:

“لي أخٌ واحد يصغرني بأعوام كثيرة، جاء خطأً في أواخر عمر أمي، غلطة، كما كانت تقول، وهي تخبئ وجهها من الخجل، لا أذكر ماذا فعل في تلك السنين البعيدة، حتى دفعني لأن أصفعه بكل غلظة الأخ الكبير، لكنني أتذكّر الدمعة الوحيدة التي سقطت من عينه، حارّة وحرّة كلؤلؤة، هو نسي الأمر كله ربما الآن، لكن يدي لا تزال تؤلمني إلى اليوم، يبدو أنّه في كل عائلة، منذ بدء الخليقة، مشروع قابيل وهابيل”.

في التفاصيل اليومية للثوراتِ شعراً، ثمة ما هو خافٍ أو ربمّا معطّل ولا يحتاجُ سوى إلى مجموعة صعقاتٍ بسيطة ليكون هذا الشيءُ الغامض جليَّاً ومشعَّاً، منظر المتشرّد أو البائع المتجوّل الذي أيقظهُ أبو صالح من سباته العميق بعد سنواتٍ مديدة، إنّه ذاتُ البائع الذي ذكره الشاعر كافافيس من خلال الترميز الذي يُستشَفُّ منهُ الهباء كله، فـ (الثورةُ دمّرت حياتي) هذا ما تفوّه به يسينين لعماد أبو صالح ذات بوح.

مخاطبة الشعر الماضي

في أجواء “كان نائماً حين قامت الثورة” لا يكفّ عماد عن مخاطبة الشعراء، وليس فقط في هذا الديوان وإنّما هذه الثيمة متوافرة في كل أعماله النثرية التي سبقت، فعماد وإن كان يذمّ الثورات فإنّه يمدح الشعراء، وعلى الدوام فإنّ الشعراء المخاطبين هم: قسطنطين وبيتروف وكافافيس وفيسلافا شيمبورسكا ولوركا وآخرين، والحال هذه، تُرى هل توقّف زمن الشعر لدى عماد عند تلك الأسماء حسب وجهة نظره؟ أم أنّ هناك تشابهاً في المصائر؟!، فالذاكرة المكوّنة لحياة الشعراء الشخصيّة استنبطها عماد من القراءات العميقة غير العابرة لما هو بين ثنايا الكلام المدوَّن، التفسير الأعمق والتفاسير المتعددة للنصّ الواحد، هذا سرّ الكتابة من وجهة نظر النقد، إلّا أنّ المزاجية الحادّة للشاعر/القارئ هي من تحكم في مثل هكذا شؤون، المزاجية التي تمدّ قدميها وتسترخي كفريسةٍ خرجت للتوّ من قبضة صيَّاد!!:

“جاءتني أخيراً/ رسالة من كفافيس / ظللت أراسله سنوات طويلة /على عنوانه في شارع ليسبيوس ليسمح لي بزيارته دون ردّ إلى أن أصابني اليأس”.

في المجموعة الأخيرة لعماد أبو صالح ثمة التساؤلات الوجودية الحقَّة، ثمّة تمرّد على الرّاهن النثريّ والشعريّ في آنٍ معاً، كتابةٌ توقِظُ الخطأ وتحرّض الشعراء على التوقّف عن ارتكاب الإثم المتجسِّد في كتابة الشعر، وبنظرةٍ فيها الكثير من التشاؤم ينظر إلى الحاضر المليء بالقتل والتناقضات، ودون اهتمامٍ يمضي نحو عوالمَ غير مطروقةٍ البتّة وبلغةٍ غيرِ مستخدَمة في ما مضى يدوِّنُ الغائبَ في أغلب ما كتب في النثر والشعر العربيَّين.

الثورةُ برؤيةٍ مغايرة

لا شكّ أنّ الثورات تستنهضُ الهِمم، ولكن في “كانَ نائماً حين قامت الثورة” تغدو الثورات -آفّة المجتمعات- أمراً غير ذي أهميّة طالما أنّ هناك البسطاء والباعة الذين يريدون العيش، فقط تحت سقفٍ آمن وبعيداً عن أعين العسس المتربّصة، ومن ثمّ الغوصُ في تفاصيل اليوميّ كي تكونَ الأمورُ على خير ما يرام:

“متُّ، وصحوت من الموت، ما أحياني حب ولا حلم، لا امرأة ولا قصيدة، غازلت عدمي، قميصي كانَ كفني، غرفتي قبري، من أين جئت بالدود؟، ما أكثره، الناس كانوا الدود الذي نهش لحمي، شاركت الموتى موتهم، واليائسين يأسهم، والضائعينَ الضياع، نلت شرفهم، تعفّنت”.

– See more at: https://www.alaraby.co.uk/diffah/books/2016/11/27/%D9%84%D9%82%D8%AF-%D9%83%D8%A7%D9%86-%D9%86%D8%A7%D8%A6%D9%85%D8%A7-%D8%AD%D9%8A%D9%86-%D9%82%D8%A7%D9%85%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A9#sthash.LiWa13kf.dpuf



صدى الشام