هل يقرأ الساسة رسائل السلام؟
30 تشرين الثاني (نوفمبر - نونبر)، 2016
تهامة الجندي
وصلتني رسالة جديدة؛ كانت تحية من الفنان نوار بلبل، مرفقة برابط، فتحته؛ فبدأ بث الفيلم الوثائقي: “سفينة الحب”، الذي يصوّر يوميات التحضير لعرض مسرحي يحمل العنوان نفسه، افتتحه نوار في يوم المسرح العالمي هذا العام، ولم أستطع حضوره من مكان لجوئي، لكني اتصلت به حينها، وأجريت حوارًا معه عبر السكايب، نُشر في “العربي الجديد”.
الوثيقة المصوّرة أخذتني إلى التفاصيل التي كتبتُ عنها، ولم أرها، وقادني الحنين إلى مسرح القباني في دمشق، حيث التقيت نوار للمرة الأولى، وهو يقدم أول عروضه بعنوان “عالم صغير” أواخر عام 2002، وكان اللقاء الحي بالعاملين على الخشبة، هو ما جعل المسرح أحب الفنون إلى قلبي. اليوم افتقد دفء اللقاء في الوسط الثقافي.
على شاشة بحجم راحة اليد أتابع “سفينة الحب”، من إخراج معن موصللي، تبدأ الرحلة وتنتهي ببؤرة ضوء صغيرة وشاحبة، تسبح في قلب الظلام على إيقاع حزين، وسوف تكون لقطة الاستهلال والختام، لازمة تتكرر في مسار الحكاية التي تمضي على خطين متوازيين: أرض الواقع وخشبة المسرح، وعلى الضفتين الأبطال هم أعضاء فرقة مسرحية، فيما تتكون بنية الفيلم من الشهادات الحية لفريق العمل، ومقاطع من التدريبات على عرضهم المسرحي، وشرائط فيديو من أرشيف وسائل الإعلام.
على أرض الواقع يستكمل المخرج، نوار بلبل، الحلقة الثالثة من مشروعه في تقديم عروض مسرحية، يؤديها الهواة من النازحين السوريين في الأردن، وفي “سفينة الحب” سبع شخصيات، تتراوح أعمارهم بين السبعة والخمسين عامًا، ينتمون إلى أطياف المجتمع الثائر، بمن فيهم فلسطينيّ سورية. جميعهم من ضحايا النظام، بعضهم مشلول، وبعضهم مبتور الساق أو اليد، ومنهم الناجي من المعتقلات. ومن حديث هؤلاء، وربطه بشرائط فيديو، توثق جرائم التعذيب والاغتصاب وقصف المدنيين، يبدأ المخرج موصللي بإحالة المأساة من حيزها الشخصي إلى الفضاء العام.
في الجانب الموازي من بنية الفيلم، تسري حكاية العرض المسرحي، وهي –أيضًا- تتناول فرقة مسرحية، كان لها رصيدها الفني وجمهورها، قبل أن تنطلق الثورة السورية، وينخرط أعضاؤها في الحراك السلمي، ويتفرقون، كل في مكان من خشية الاعتقال. بعد مرور خمسة أعوام يتواصل الأصدقاء من جديد، ويقررون الهجرة إلى بلد يحميهم، وعلى متن السفينة يجتمعون، وفي أثناء الرحلة يروي كل منهم معاناته للآخرين، ويقومون بتشخيص بعض المشاهد من نصوص عالمية: كـ”الفرسان” لأريستوفان، “طرطوف” لموليير، و”فاوست” لغوته، وقبل أن تصل السفينة إلى الجنة الموعودة، تهب الرياح وتشتد، وتبدأ الفرقة بمواجهة مصيرها الأسود، وهي تردّد مونولوج العاصفة في “الملك لير”، إلى أن يغرق آخر الممثلين.
تتوالى المشاهد، وتتماهى اللقطات التسجيلية في الفن المسرحي. نتابع آلام الممثلين وآمالهم، ندخل أجواء التدريبات على العرض، ونشاهد مقاطع ناجزة منه، نرى الفنان الفرنسي، جان إيف بيزان، وهو يصمم السفينة، ونرى الفنانة شارلوت سارازين وهي تضع لمساتها على الأزياء. نستعيد وثائق الجريمة، ومن خارج الكادر تأتينا موسيقا ديما أورشو، وكلارنيت كنان العظمة، وجميع مفردات الفيلم تحاول كتابة رسالة سلام عن المأساة السورية، بين البقاء في كابوس القتل الممنهج، أو الهروب نحو قدر مجهول، فهل يقرأ الساسة رسائل السلام؟
يبقى ملف اغتصاب المعتقلات في أقبية التعذيب واحدًا من أجرأ الملفات، التي فتحها الفيلم والعرض المسرحي، على حد السواء؛ لأنه يستنكر السكوت عن الجريمة، مراعاة لأحكام المجتمع الذكوري، ويعدّه إعادة اغتصاب للسجينة المفرج عنها. منذ بداية “سفينة الحب”، تقول الصبية هيا: الثورة فكر، وعلى مشارف الختام يتماهى التمثيل بالواقع، وتصرخ بأعلى صوتها: اغتصابي واغتصاب كل سجينة سورية تاج على رؤوسكم، تاج على رأس الثورة.
[sociallocker] [/sociallocker]