الشوارب

1 ديسمبر، 2016

ميخائيل سعد

ربما هي الصدفة العمياء التي جعلت من تشرين الثاني/ نوفمبر شهرًا متعدد المناسبات، التي قد تبدو متعارضة ومتصارعة، ولكنها -في الواقع وجوه متعددة لأزمة واحدة؛ فهو شهر الشوارب العالمي، حيث يصوم فيه الرجال -أو بعضهم- عن حلق شواربهم، أملًا في لفت انتباه العالم إلى انتشار سرطان البروستات، التي اختص بالرجال دون العالمين. وهو الشهر الذي اعتمدته الأمم المتحدة؛ ليكون يوم 25 منه يوما لمناهضة العنف الذي يقع على المرأة، من أصحاب الشوارب واللحى وغيرهم من الذكور. وهو -أخيرًا- الشهر الذي يختار فيه الأميركيون رئيسهم الجديد، حاكم العالم، وكان من “سوء حظ” هذا العالم أن يكون خيار الأميركيين، هذا الشهر، رجلًا لا يحترم النساء، ولا يحب المسلمين، ولا الملونين، وغير مهتم بسرطان الرجال ولا بشواربهم.

أما وإن شهر الشوارب قد انتهى البارحة، فهذا يعطيني الفرصة كي أفصفصه، عارضًا قصته، ومشيرًا إلى أهم ما يميز أصحاب الشوارب عن غيرهم.

توضح مدونة “هافنغتون بوست” أن حكاية هذه الحملة بدأت في أستراليا قبل عشر سنوات، حين قرّرت مجموعة من الأصدقاء إعادة إحياء موضة الشوارب، وقد تمكنوا -عبر السنوات- من توسيع تأثير الحملة عبر العالم وجمع التبرعات منها، حتى باتت تضم اليوم 21 بلدًا حول العالم، كما جمعوا 154 مليون دولار أسترالي؛ لدعم أبحاث سرطان البروستات.

قد يكون في خلفية هذه الحملة احتجاج ضمني على تنامي دور المرأة في الحياة العامة، على حساب دور الرجل؛ فقد أُتيح لي أكثر من مرة، قبل عشرين عامًا، أن أختلط مع كنديين، كانوا يفكرون بإنشاء جمعيات لحماية الرجل من تعدي النساء، وهذه ليست مزحة، وإنما هي تعبير فعلي عن القلق الذي بدأ يعانيه بعض الرجال في الغرب، من سيطرة المرأة. ومن المفيد -هنا- التذكير بالجريمة المروعة التي وقعت في جامعة مونتريال عام 1989، وأدت إلى موت 14 طالبة، فقد قال القاتل في خطاب انتحاره “إن النساء لا يكتفين بحصولهن على مزايا تحصل عليها المرأة حصريًا، لكنهن يستولين -أيضًا- على وظائف الرجال”، لذلك كتبت في البداية، عن المصادفة العمياء، التي جمعت بين هذه المناسبات.

عندما كنت مراهقًا، كنت كغيري، من المراهقين، نُدخّن ونحلق الزغب الذي يغطي منابت الشوارب، في استعجال لأن نتحول إلى رجال. فقد كانت لفافة التبغ والشوارب مدخلنا إلى عالم النساء الذي كنا نحلم به، سواء من مشاهداتنا السينمائية، أو من المرويات الثقافية الشعبية التي كانت متداولة في مجتمعنا، أو من المشاهدات العينية لسلوك الرجال المحيطين بنا، أو الذين نراهم في الشوارع. وبعد أن كانت الشوارب محل فخر واعتزاز، ينعكس ذلك في الأمثال الشعبية التي تصف الشارب الكث القوي بأن الصقر يقف عليه، وبعد أن كان الرجل يُقسم الإيمان بلمس شواربه، ويُعطي العهود الضامنة لحقوق الآخرين بلمسه لها، تحول الشارب أو الشنب إلى عبء في زمن المخابرات، فكان رجل المخابرات، كي يهين الرجل، يسحبه من شاربه، ويبصق عليه، لذلك، ربما كان من الأسباب التي دفعت الشاب إلى التخلي عن ترك شواربه، واستبدالها أحيانًا بلحية “مودرن” أو لحية دينية مع كل المخاطر التي تحملها اللحية الدينية، في وسط المخابرات السورية.

في الولايات المتحدة، وقد يكون لهذا علاقة بانتخاب ترامب، الذي أعلن وقوفه ضد المرأة في شهر الشوارب، كان الشباب في القرن التاسع عشر يُعلنون عن حقوقهم، بوصفهم بالغين، يحق لهم التصويت في الانتخابات بإطلاق شواربهم ولحاهم، وهو التعبير الحسي عن بلوغهم السن القانوني للتصويت، أي 21 سنة. أما الآن فإن العاطلين عن العمل من الرجال البيض، الذين يرون في المرأة منافسًا لهم في العمل، فقد أعلنت الأغلبية منهم أنهم مع ترامب وتوجهاته الاجتماعية والسياسية المعادية للمرأة.

في عام 1977 كنت في سجن حماه المدني، ليس بسبب الشوارب، وإنما لأنني كنت ضد حافظ الأسد، وقد تم تحويلي إلى مشفى المدينة، حيث أمضيت في نظارة المستشفى عشرة أيام، استطعت خلالها أن أبني علاقة صداقة مع شرطة المخفر، كان أقربهم إلي الشرطي الحموي الزكرت أبو عبدو. كان للرجل شارب كث وطويل يتجاوز طرفاه عرض وجهه الضيق، وكان الرجل كله لا يتجاوز وزنه الخمسين كيلو غرام، وينطبق عليه مفهوم “الزكرت الحموي” الذي يُجسّد في سلوكه قيم قبضايات أبناء الحارات الشعبية، من شهامة وشجاعة وكرم. يوم قرر الطبيب إعادتي إلى السجن، كان من نصيبي أن يكون الشرطي أبو عبدو مَن سيوصلني. بعد أن غادرنا المستشفى بعشرات الأمتار نزع “الكلبجة” من يدي، وسرنا جنبًا إلى جنب إلى أن وصلنا إلى الطريق الدولي المؤدي إلى حمص. قال لي: أخي ميخائيل، الساعة الآن الثانية بعد الظهر، ويجب أن تكون في السجن التاسعة مساء، كأبعد تقدير، أقترح عليك أن تذهب إلى حمص لزيارة زوجتك أو خطيبتك أو صديقتك أو أهلك، المهم أن تكون في ساحة العاصي قبل التاسعة، وسأنتظرك هناك لأودعك في السجن. شكرته ورفضت عرضه، فأنا لم أكن مستعدًا لتعريض حياة هذا “الزكرت”، وحياة عائلته للخطر؛ نتيجة خطأ قد يقع لي في الذهاب أو العودة. ولما تأكد من إصراري على رفض عرضه، قال: ماذا سنفعل الآن؟ قلت له على خجل: هل تشرب كحول أبو عبدو؟ قال: أكيد. قلت له: إذن؛ لنذهب ونشرب بطحة عرق مع وجبة غداء، وبعدها إلى السجن. وهذا ما كان.

مرّ على هذه الواقعة -حتى الآن- أربعون عامًا، ولا زلت أذكر الشجاعة والنبل والتضحية التي قدمها شرطي حموي لسجين سياسي؛ لأن هذا الرجل كان يعرف معنى الشرف، ومعنى أن يحترم شواربه الطويلة وأخلاق مجتمعه، فأين نحن الآن في مسلسل “باب الحارة” وأبطاله من شجاعة هذا الحموي.

أخيرًا، لا بد من الإشارة إلى أنني خلال تحركي الخفيف في مونتريال، هذا العام، لم ألحظ حقيقة ظاهرة إطلاق الشوارب في شهر الشوارب، لا بين الكنديين، ولا بين العرب، وكأن تسليمًا ما، أو عدم اهتمام بالرجال الذين يحملون سرطان البروستات. قد أصبحت أساليب علاج هذا السرطان سهلة، والدولة تقوم بها وتصرف عليها. أما عن التأثير النفسي السلبي على مفهوم الرجولة، فهذه آخر الهموم عند الحكومات التي تعنى بالموت أكثر من عنايتها بالحياة، وسورية خير مثال.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]