تعودت أن أحب كاسترو

1 كانون الأول (ديسمبر - دجنبر)، 2016
6 minutes

راتب شعبو

تعودت أن أحب كاسترو، تمامًا كما تعودت أن أكره الاستعمار. كان ذلك بمنزلة المشاعر البديهية. وفي الحب ينسحب العقل إلى الزاوية البعيدة، ويصبح متواطئًا مع الحب من زاويته تلك. المشاعر تغلب على العقل، هكذا يكون الحال في الغالب. الآن، حين أسترجع ذاتي وأمتحن مشاعري البعيدة، أجد أن كاسترو حاز بالفعل على ما يتطلبه الإعجاب، فقد كان “كل ما يجب أن يكونه الثائر”، بحسب قول هنري ريستون، رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأميركية، في الفترة بين 1951 – 1964. استطاع أن يقف ضد الطغيان الأميركي، وأن يُلهم كثيرًا من الثوار حول العالم. كثيرًا ما ينهزم الثائر، وفي هزيمته يضمن لنفسه نصرًا أخلاقيًا يتغذى على قيمة تمرد الضعيف، فكيف إذا انتصر وصمد الثائر كما كاسترو؟ كيف إذا استطاع أن يبقى منتصبًا، على ضعفه، مثل كوبا؟
يثير التعاطف أن تجد بلدًا صغيرًا ككوبا محاصرًا من امبراطورية بحجم أميركا. ويثير الإعجاب أن تُقاوم كوبا هذا الحصار، وأن تعمل في السياسة الخارجية كل ما يغيظ العملاق الأميركي، وأن تمدّ يدها الفقيرة إلى كل حركات التحرر، وإلى كل الدول التي تعدها معادية لأميركا المتغطرسة والمعتدية. ولكن ليس قليلًا أن يغيب وراء هذا التعاطف والإعجاب السؤال عن “الوضع الداخلي” في مثل هذه البلدان، والسؤال عن معنى “الزعيم المؤبد”. غالبًا ما يغيب “الحصار الداخلي” وراء ضجة “الحصار الخارجي” الذي يتحول إلى ركيزة قوية لتعزيز الحصار الأول وقبوله وتشريعه. القضايا الكبرى تلتهم القضايا الصغرى وتطمسها، وإذا كان يمكن قبول هذا تحت اسم الضرورات، فمن غير المقبول أن تتحول الضرورات من أمر عابر إلى أمر مقيم. عندئذ تتحول القضايا الكبرى إلى مجرد كلام يشبه شواهد القبور.
أمام قضية كبرى، مثل تحدّي الحصار الأميركي، القريب الشبه من ممانعة هذه الأيام عندنا، تتحول حياة الكوبيين إلى تفاصيل مهملة. وبذلك يتحول استمرار أمثال كاسترو في الحكم إلى قضية بحد ذاتها، قضية طاردة لكل أنواع الاحتجاج أو السؤال أو حتى التأمل. مواجهة أميركا تتطلب وجود الزعيم، واستمراره يتطلب التضحية بالقضايا الصغرى مثل حقوق الإنسان وحرية التعبير… إلخ. أليس لدينا ما يشبه ذلك اليوم، على بعد المسافة والزمن؟
حين تمكنت “الثورة” الكوبية من الاستمرار، ومن إنتاج العناصر المحلية والعالمية الكفيلة بديمومتها، تحولت إلى حالة “مؤسساتية”، وانضوت في عالم مؤسس على الظلم والتفاوت، وباتت جزءًا من جمود هذا العالم وعطالته. ليس في هذا أي عجب، وليس في هذا أي انتقاص من قيمة الحرب الثورية التي باشرها الكوبيون ضد حكومة باتيستا الذي كان بمنزلة الوكيل المحلي للأميركان. لكن في هذا محل للتساؤل عن الديمومة الثورية وعن الجدوى. الثورة التي حققت مكاسب للكوبيين في مجال التعليم والصحة وتحسين الدخل، تحولت إلى نظام صلب ينتج التمايزات القائمة على الولاء ويكرسها، كما تحول الثائر الكبير إلى دكتاتور. وقد خبرت معظم شعوب العالم الثالث، بلحمها ودمها، هذا التحول الفظيع من ثوار حركات التحرر إلى ديكتاتوريي “الدول الوطنية”.
حاز كاسترو على مجد واسع، وقد كانت مادة هذا المجد تصبح مع الوقت شخصية أكثر منها كوبية. اضمحلت كوبا وراء ضخامة كاسترو، مثلما تسربت أرواح وأعمار كوبيين كثر خلف راية “الثورة”، بمن فيهم بعض أبرز قادتها، ليس لمصلحة الثورة بل لمصلحة “سلطة” الثورة.
مع الوقت، ولا سيما بعد أن تفكك الاتحاد السوفياتي الذي أوشك أن يشعل حربًا نووية من أجل كوبا، فيما عرف بأزمة الصواريخ في تشرين الأول/ أكتوبر 1962، باتت كوبا كأنها قطعة من الماضي. وبات كاسترو ثوريًا تاريخيًا ناضبًا، أو علامة فارقة، يتهافت نجوم نيويورك وصحفيوها للقائه، حين جاء للتكلم في الأمم المتحدة في 1995.
يعلق “القائد الأقصى”، كما يُسمّى في كوبا، والذي اضطره المرض للتخلي عن الحكم لأخيه، على الزيارة التاريخية للرئيس الأميركي باراك أوباما إلى كوبا في آذار/ مارس 2016، وهي الزيارة الأولى التي يقوم بها رئيس أميركي في منصبه إلى كوبا منذ 88 عامًا، بمقالة يقول فيها: “إننا لا نحتاج أي شيء من الامبراطورية”، ويضيف معلقًا على دعوة أوباما إلى ترك الماضي، والانطلاق إلى المستقبل: “أظن أننا جميعًا كنا معرضين لخطر نوبة قلبية لدى سماع كلام الرئيس الأميركي”.
الدعوة إلى نسيان الماضي بالنسبة لزعامة تعتاش على الماضي، هي دعوة إلى “نوبة قلبية” حقًا. من المفهوم أن يدرك كاسترو هذا، ولكن من الغريب أن يقوله بهذا الوضوح. إذا كان الثائر القديم، لا يريد شيئًا من الامبراطورية الأميركية، ولا يريد أن يترك الماضي، فإنه -إذن- يريد المحافظة على ما هو قائم، بوصفه “مجدًا” وقيمة بذاته. ولذلك؛ يختم الزعيم الكوبي الراحل مقاله بالقول: “لا يظن أحد أن شعب هذا البلد الكريم والغيور يمكن أن يتخلى عن المجد”.
يمكن أن تخدم الثورية، حين تتعثر وتنضب، بوصفها مادة خامًا، صالحة لإنتاج أشد النزعات محافظة.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]