ديكتاتور، لكن…! في (لا) أولوية الديمقراطية وصادق جلال العظم
2 كانون الأول (ديسمبر - دجنبر)، 2016
حسام الدين درويش
للوهلة الأولى، يبدو بديهيًّا الاعتقاد بأولوية الديمقراطية، في السياق السوري والعربي، الحالي على الأقل، على ما عداها من الأفكار والقيم السياسية (العدالة الاجتماعية، والتنمية الاقتصادية المستدامة، ومناهضة الإمبريالية، وتحرير الأراضي المحتلة… إلخ)، من دون أن ينفي ذلك وجود تشابكٍ وتداخلٍ جزئيٍّ بين القمة المفترضة لهذه التراتبية، وبقية عناصرها أو مكوناتها. وتكتسب هذه الفكرة بديهيتها من واقعٍ تاريخيٍّ وقيمةٍ أخلاقيةٍ عامةٍ أو “كونيةٍ”. والمقصود بـ “الواقع التاريخي” هنا حقيقة أن الأنظمة الدكتاتورية العربية كانت، وما زالت، أحد أهم عوامل عدم تحقيق أيٍّ من الأهداف المنشودة، على صعيد السياسات الداخلية والخارجية؛ فعلى الصعيد الداخلي، تبدو الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في معظم البللاد العربية، على الأقل، وكأنها تسير من سيئ إلى أسوأٍ باطراد منتظمٍ ومستمرٍّ؛ أما على الصعيد الخارجي، فيزداد ضعف الدول العربية وتبعيتها للخارج، وعدم قدرتها على التصدي للأخطار القائمة، أو الناشئة، في هذا السياق أو ذاك (هزائم عسكرية وسياسية مستمرة ومتفاقمة). وإضافةٍ إلى التقييم البراغماتي السابق، تنطلق بديهية أولوية الديمقراطية من قيمةٍ أخلاقية عامةٍ لا تقبل المساس بحريات الأفراد وكراماتهم، وترفض أي تسويغٍ لقمعهم وحرمانهم المستمر والممنهج والمقصود من حرياتهم الأساسية، بحجة ضرورة ذلك من أجل تحقيق التنمية والتقدم ومواجهة الأخطار الخارجية.
على الرغم من السمة البديهية لـ “أولوية الديمقراطية”، يبدو أن كثيرًا من معارضي هذا النظام الديكتاتوري أو ذاك لا يعتقدون بها، وبما تتضمنها من تراتبية في الأولويات. وإذا اقتصرنا على الحديث عن معارضي تنظيم الأسد الديكتاتوري، نجد أن عددًا كبيرًا منهم لا يقر بهذه البديهية، ولا يوافق على أولوية الديمقراطية. فإضافةً إلى المعارضين الذين يقولون بإسلامية الدولة السورية المنشودة على حساب ديمقراطيتها، نجد كثيرًا ممن يُعارضون ديكتاتورية تنظيم الأسد يمجّدون نظام صدام حسين الديكتاتوري؛ لأنه كان “السد المنيع” في وجه إيران ومطامعها وأيديولوجيتها الطائفية العدوانية التوسعية، أو يشيدون بـ “الزعيم” عبد الناصر ونظامه، أو يُبالغون في مدح “الرفيق” كاسترو، والإشادة بنظامه الثوري (اللاديمقراطي)… إلخ. فمعظم هؤلاء، وربما كلهم، لا يجدون في ديكتاتورية الحاكم أو النظام السياسي أمرًا كافيًا لإدانته ورفضه، والقول بخطئه، أو -بالأحرى- خطيئته، لذا؛ تجدهم يضعون أفكارهم في صيغة: “هو ديكتاتور، لكن…”. والـ “لكن” وما بعدها -هنا- يجبَّان -غالبًا على الأقل- ما قبلها، أو يُقلّلان من أهميته تقليلًا كبيرًا، على الأقل. ويبدو لي أنه من السهل، وربما من الواجب، إدانة هؤلاء أو رفض أفكارهم، استنادًا إلى بديهية أولوية الديمقراطية، لكنني أرى ضرورة التفكير في المسوِّغات التي يقدمها بعض هؤلاء المعارضين للديكتاتورية، والرافضين لأولوية الديمقراطية، في الوقت نفسه. وتأتي ضرورة هذا التفكير من الانتشار الكبير لهذا الموقف المزدوج، ومن تعقيدات الواقع التي قد لا تسمح بوضع أولوياتٍ ثابتةٍ، إلى درجة الجمود.
من المهم الإشارة -بداية- إلى أن تنظيم الأسد ومؤيديه وحلفاءه هم أكبر معارضي أولوية الديمقراطية والحريات السياسية. فتنظيم الأسد كان يقول دائمًا بأولوية الإصلاح الاقتصادي على الإصلاح السياسي، ومؤيدوه وحلفاؤه يقولون بأولوية الاستقرار و/أو التنمية و/أو المواقف السياسية تجاه القضايا الوطنية المتعلقة بالاحتلال الإسرائيلي والإمبريالية “الأميركية” والرجعية “العربية”… إلخ.
نعتقد أنه من الضروري والمفيد التذكير بأن هذه الأيديولوجيا التي تُبرِّر أو تُسوِّغ الديكتاتورية أو تغض النظر عنها، على الأقل، لم تبدأ وتنتشر مع تنظيم الأسد، بل تعود جذورها إلى الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، مع نشوء “إسرائيل” والانقلابات العسكرية والأنظمة التقدمية التي تلت ذلك، أو رافقته. فنشوء إسرائيل وحالة المواجهة معها كانا الذريعة، أو إحدى الذرائع الأساسية، لمعظم الانقلابات العسكرية التي تلت هذا النشوء وتلك المواجهة. ومنذ خمسينيات القرن الماضي تصاعد خطاب الأنظمة و”الثورات” الوطنية والقومية التحررية والتقدمية، وسادت المناداة بضرورة التضحية بالديمقراطية السياسية، والتخلي عنها في سبيل تحقيق “المجتمع الاشتراكي التقدمي”. ويشير عبد الرزاق عيد، في كتابه “ذهنية التحريم أم ثقافة الفتنة…” (ص 8-9) إلى أنه منذ بداية الستينيات، بدأ “تقويض المجتمع المدني، ووأد الديمقراطية، بين مطرقة التيار القومي (عربي أو سوري)، من جهة، وسندان الماركسية الشيوعية الرسمية، من جهة أخرى، الأول من خلال المراهنة على أولوية مبدأ الاندماج “القومي” على حساب مبدأ السيادة على النفس والديموقراطية، والثاني من خلال المراهنة على أولوية “ديكتاتورية البروليتاريا” الاشتراكية، على حساب مبدأ استحالة بناء الاشتراكية على قاعدة قروسطية، أي بغياب أسس “المجتمع المدني” الديمقراطي، التعددي، القانوني، الدستوري، الحديث”.
إن انتشار هذا الخطاب المناهض للديمقراطية السياسية، أو المقلل من أهميتها، منذ تلك الفترة، لا ينفي -بالتأكيد- وجود أسماء بارزةٍ، لكنها نادرةٌ نسبيًّا، شدَّدت على أهمية الديمقراطية، من حيث المبدأ؛ حتى في إطار السعي إلى تحقيق المجتمع الاشتراكي “المنشود”. ويأتي ياسين الحافظ في طليعة هذه الأسماء. وفي المقابل، كان صادق جلال العظم أحد أبرز مؤيدي الأنظمة الثورية “التقدمية”، بغض النظر عن ديكتاتوريتها، أو على الرغم من هذه الديكتاتورية. ولأسبابٍ عديدةٍ، يأتي في مقدمتها المرونة والنزاهة الفكرية التي يتحلى بها العظم في كتاباته، وزوال الأنظمة التقدمية التي كان يؤيدها، وينظِّر لها، أو ثبوت “عدم تقدميتها”، تخلى العظم لاحقًا تدريجيًّا عن موقفه المؤيد لتلك الأنظمة، والمناهض للديمقراطية، مناهضةً مباشرةً أو غير مباشرةٍ، لصالح تبنّي موقفٍ ليبراليٍّ يُشدِّد على أهمية الحريات السياسية “الليبرالية”؛ وواصل العظم تحوله “الجذري” لاحقًا، بحيث أصبح متبنيًا عتيدًا لبديهية “أولوية الديمقراطية”.
يبدو لي أن “بعض” القوى الديمقراطية في سورية تجد نفسها في وضعٍ مشابهٍ، جزئيًّا ونسبيًّا، للوضع الذي وجد العظم نفسه فيه، في ستينيات القرن الماضي. فالسوريون الثائرون هم في حالةٍ مواجهةٍ مع عدوٍّ أسديٍّ غاشمٍ، لا يقل خطرًا وسوءًا وإجرامًا عن العدو الإسرائيلي، بل تمكن المحاجة بأنه يفوقه في ذلك، كمًّا وكيفًا. وفي مواجهة هذا العدو وحلفائه وأسياده، لم يجد كثير من الثائرين، المتبنين لبديهية أولوية الديمقراطية، مجالًا كبيرًا وكافيًا لنقد أو انتقاد الأفكار والقيم والتوجهات المعادية للديمقراطية، أو الرافضة لها، والتي انتشرت تدرّجًا، وبتزايدٍ، بين وفي القوى والتنظيمات (العسكرية خصوصًا) المعارضة للنظام. وقد بدا، في كثيرٍ من الأحيان، أن إسقاط النظام وهزيمته أو تغييره الجذري هو الأولوية والهدف المباشر الأهم الذي ينبغي تبنّيه؛ لأن كم وكيف الجرائم الوحشية التي ارتكبها ويمكن أن يرتكبها تنظيم الأسد، يسمح بتحالفٍ تكتيكيٍّ مع الشيطان؛ للخلاص من هذا النظام. صحيحٌ أن معظم “الشياطين” متحالفةٌ مع النظام، أو مهادنةٌ له، ولا ترى في معارضي النظام والراغبين في إسقاطه حليفًا مناسبًا أو مفيدًا لها، لكن من الصحيح -أيضًا- أن الوضع الكارثي والمأسوي الذي يعيشه كثير من السوريين، في ظل احتلال تنظيم الأسد وأعوانه وأسياده، ومحاصرة هؤلاء مئات الآلاف من السوريين في حلب والوعر وريف دمشق… إلخ، وتركهم تحت خيار الموت جوعًا أو قصفًا، أو الاستسلام، لا يترك مجالًا كبيرًا للتفكير، أو حتى التنفس، فضلًا عن التدقيق في هوية وأفكار القوى والتنظيمات التي تقاتل تنظيم الأسد وحلفاءه وأسياده في تلك المناطق، وغيرها من المناطق الثائرة، أو نقد وانتقاد تلك القوى والتنظيمات.
إن الوضع المُعقّد الحالي في سورية، والتفكير فيه، دفعا ويدفعان بعض السوريين إلى التخلي عن تبني رؤيةٍ هرميةٍ لمسألة الأولويات، لصالح تبني رؤيةٍ جدليةٍ مرنةٍ، تميز بين ما هو أوليٌّ وما هو أولويٌّ. فإذا كان الأوليُّ المباشر يتمثَّل في الخلاص من تنظيم الأسد وحلفائه وأسياده، وتخليص الناس منهم، فإن ذلك ينبغي أن يتم -دائمًا وقدر المستطاع- في إطار رؤيةٍ وممارسةٍ تؤكِّد أولوية الديمقراطية، بوصفها الهدف والأفق المنشود لعملية التحرر. فلا ديمقراطية بدون حرياتٍ، ولا حرياتٍ بدون تحررٍ أوليٍّ من الديكتاتورية. ومن نافل القول أن تحقيق الديمقراطية، وما تستند إليه من مبادئ وحرياتٍ، لا يعني نهاية المشكلات والأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية القائمة والمتفاقمة، بل بدايةً لحقبةٍ تسمح بالتفكير والتداول في أفضل السبل؛ لحل هذه المشكلات، ومواجهة هذه الأزمات والتفاعل الإيجابي معها. وهذا ما أبرزه العظم في نصوصه أو حواراته الأخيرة خصوصًا.
تُبيّن تجربة العظم الفكرية ضرورة عدم الركون إلى الاستبداد، أو التعويل عليه في تحقيق نهضة المجتمع والدولة وتقدمهما. أما محايثة النقد لفكر العظم، فتظهر الأهمية الدائمة، أو شبه الدائمة، لتبني موقفٍ نقديٍّ تجاه كل الأفكار والمواقف والأوضاع المحيطة بنا، والمواجهة أو الموجَّهة لنا، ولن يكون لهذا النقد “للآخر” جدوىً ومعنىً كبيران، إذا لم يترافق مع نقدٍ للأنا، بحيث يكون “نقدًا مزدوجًا”. ونصوص العظم، صاحب “النقد الذاتي”، تظهر ضرورة المراجعة النقدية الدائمة لأفكارنا و”بديهياتنا”، بدون أن يعني ذلك أن تلك المراجعة ينبغي أن تفضي إلى التخلي الكامل عن تلك الأفكار والبديهيات.
العظم بالنسبة إلى كثيرين –وأنا منهم– مَعلَمٌ من معالم الفكر العربي (السوري) المعاصر، ومُعلِّمٌ يمكن أن نتعلم كثيرًا من خلال قراءة نصوصه. لكن التعلم من العظم ينبغي أن يترافق -دائمًا- مع النقد المزدوج المذكور آنفًا. ولا يعني التعلم من العظم تبني أفكاره كلّها، أو جلّها، كما يفعل “مريدو” بعض المفكرين والفلاسفة. فالاهتداء بالعظم والسير على غراره يتضمنان -بالضرورة- خروجًا ما عن مساره، وخروجًا ما على بعض مواقفه وأفكاره. التعلم من العظم لا يعني الاغتناء بأفكاره ورؤاه ومواقفه فحسب، بل يعني -أيضًا- وربما خصوصًا، التعلم من “أخطائه”، بحيث لا يكون الاغتناء المذكور إلا لحظةً من لحظات التجاوز الذي سعى العظم نفسه إلى تحقيقه. لا شك في أن السياق الحالي يدفع كثيرًا من “محبي” العظم والمتأثرين “إيجابًا” بفكره إلى الكتابة عن العظم “الإنسان”. وعلى الرغم من أن معرفتي بالعظم تسمح لي بالإسهاب في عرض إيجابيات العظم “الإنسان”، إلا أنني، لأسباب عديدةٍ، فضَّلت وأفضل ألا يشغل ما يسمى بـ “أدب المناقب” المساحة الأكبر من نصوصنا المخصَّصة عن المفكرين المهمين، من أمثال العظم. فـ “العظم – الإنسان” سيتركنا، لكنه سيترك لنا دائمًا “العظم – المفكِّر”. طبعًا هذا لا ينفي وجود تداخل بين الطرفين، ولا ينفي أن “العظم – الإنسان” يظهر ظهورًا، كبيرًا نسبيًّا، وإيجابيًّا عمومًا، في نصوص “العظم – المفكر”.
[sociallocker] [/sociallocker]