سقوط الأوهام في الثورة السورية


شوكت غرز الدين

تعاني الثورة السوريّة أساسًا من خللين قاتلين هما: خلل في موازين القوى بينها وبين النظام، وخلل في وعي قوى الثورة لهذه الموازين، يكمُن في ضعف العقلانية بحسابات موازين القوى وضعف الواقعية في رؤيتها.

وقد سقطت أوهام ثلاثة، أنتجها عجزنا الواقعيّ والعقلانيّ في سيرورة الثورة السوريّة، وضمن مخاضها، كانت قد تمترست عندها قوى الثورة، وما زالت؛ لضعف العقلانية في وعي صفوفها ولضعف الواقعية أيضًا. فهل تنمو -بديلًا للأوهام الساقطة- استراتيجية عقلانية وواقعية في خضمّ العمل الثوريّ، تعمل على تعديل الخلل في موازين القوى، كما تعمل على تنمية الواقعي والعقلاني في وعيها؟ أم سنبقى في حالة الدوران العبثي التي نحياها بلا تقدم؟

أول هذه الأوهام، سقوط وهم التسليح لقوى الثورة، إن كان عن طريق دوليّ، أو عن طريق غنائم الحرب، أو عن طريق ذاتيّ، وانتفاء خطة دوليّة لضرب النظام عسكريًا، وبالتالي؛ استمرار الخلل لصالح النظام في موازين القوى المباشرة القابلة للعدّ والملاحظة بين قوى الثورة، وبين قوى النظام الذي استدرج السلاح، وحصل عليه على الدوام و، ثانيها سقوط وهم الظفر السريع والحسم السهل بسواعد سوريّة، عند النظام كما عند قوى الثورة، ونمو الاتكال على قوى غير سوريّة للحسم؛ نتيجة للخلل في موازين القوى وللخلل في الوعي المُفتقِر إلى العقلانية والواقعية، ثالثها سقوط وهم مفاعيل الخراب وتداعيات ضرب الحاضنة الاجتماعية المتعلقة بالثورة، وتلك المتعلقة بالنظام في تحقيق النصر والحسم والإخضاع، ذلك الوهم الذي يلخصه المثل الشعبي: “إن ما خربت ما بتعمر”. فبات السوريون مع خراب نفسيّ واجتماعيّ وخراب ما تبقى من عنصر وطنيّ فضلًا عن دمار البنية التحتيّة والمدن والقرى بدون إعمار لأي شيء!

كأنها دعوة للتثبيط

هذه الأوهام الثلاثة، التي شكّلت عناصر توجه سوريّ معتدل ومتطرف وإرهابيّ، شهدت رواجًا غريبًا في صفوف الثوار السوريين، على مدار ثورة اقتربت من عامها السادس، بحيث بدت دعوة الثوريّة العقلانية والواقعيّة الثوريّة تلك التي تعتمد موازين القوى، وحسابات المصالح، ومفاعيل الزمن، وعدم إهمال القوى الصغيرة والكامنة والمبددة على اتساع الرقعة السوريّة، والتي دعا إليها بعض المثقفين، بدت دعوة إلى التثبيط، تعرقل -كما يرى منظرو أصحاب الأوهام- عمليتهم الجارية، أو الصاعدة في إسقاط النظام السوريّ الذي يملك -حتى اللحظة- العاصمة دمشق وجزءًا كبيرًا من الجيش وجزءًا كبيرًا من الاقتصاد.

ويكفي لتأكيد اللاعقلانية واللاواقعية في استراتيجية قوى الثورة النظر إلى إطلاق بعض الفصائل لـ “ساعة الصفر”؛ من أجل احتلال العاصمة دمشق. فنجد منهم من يريد احتلال العاصمة دمشق، بدون أن يقترب من جيل قاسيون المُطِلّ عليها كموقع عسكري دفاعيّ، يجعل من شبه المستحيل الاقتراب منها! وتكفي كذلك دعوات العجز التعويضيّة المختلفة لضرب الحاضنة الاجتماعية؛ فبدلًا من ضرب الخصم نضرب ظله وخياله، تلك الدعوات التي لم تسفر إلا عن ازدياد الفجوة بين وعينا وبين واقعنا، فضلًا عن ضرب احتمالات حشد جميع طاقات السوريين في استراتيجية عقلانية وواقعية لإنتاج بلدهم من جديد، على أسس وطنيّة وديمقراطيّة. وفي هذا السياق الوهمي، وعلى سبيل الفكاهة، سمعنا، قبل فترة، أنس العبدة رئيس “الائتلاف الوطنيّ لقوى الثورة والمعارضة” يطلق شعار الحسم العسكري، كرغبة وتخيّل وممكن، لا يمتّ لواقع موازين القوى بصلة.

“الجرب الثوريّ”

مع هذا التوجه بلغ “الجرب الثوريّ” بحسب عبارة لينين حالته القصوى، حالة الفصام المرضيّ عن الواقع، حيث حُوِّل الوهم إلى واقع ومُسِخ الواقع إلى وهم! وكأن الثوار هجروا عقولهم وغرقوا في هذيانات محمومة، نفّست غضبهم وبررت عجزهم، بعد أنْ بات من المعروف السياق الدوليّ والإقليميّ والمحليّ الذي تكونت في إطاره مثل هذه الأوهام، وما القاع الثقافيّ الذي سندها، وما الوظيفة التي قامت بها.

أولًا، إنها مجموعة من الأوهام تكوّنت في مناخ عجز قوى الثورة أمام تلك التي يدّخرها النظام السوريّ.

ثانيًا، إيمان قوى الثورة بالنصر الرباني، بمساندة خرافية من “أصدقاء الشعب السوريّ”. فعندهم ما على المجتمع الدوليّ، إلا ضرب النظام عسكريًا، أو تسليحنا بسلاح فعّال؛ حتى يسقط النظام وتحل قوى الثورة محله! وكأن المجتمع الدوليّ جمعية للبرّ والتقوى!

ثالثًا، تبديد الواقع الكارثيّ الذي نعيشه بعدم الاعتراف به، الشيء الذي تحوّل إلى صمام أمان عند الفصائل المهزومة تكتيكيًا؛ ما أدى إلى التحالف مع الواقع كما هو. وهذا عطل سيرورة وعي نقدي ومطابق للواقع؛ ليتأكد خطوة خطوة، ومن جديد، كون قوى الثورة هي الوجه الآخر للنظام.

والآن، وبعد انقشاع هذه الأوهام، ما زلنا نسمع لسان حال ثوارنا يقول: لا غبار على الأفكار – الأوهام، إنَّ الواقع غلط! وإنَّ تهوين المشكلات الواقعية والاستهانة بها غالبًا ما يؤدي إلى روح تصالحية مع الواقع تعجز عن فهمه، فضلًا عن تغييره، من خلال تغيير الفكر الذي أنتجه. فبقدر ما يكون الوعي الثوريّ مطابقًا لواقعه، بقدر ما يستطيع أن يخدم في توسيع الاحتمالات الثوريّة، أو في قهر ومداورة الصعوبات؛ لتخفيف خسائر الهزائم، والاستفادة من الوقت لإعداد صبور ودؤوب لجولة مقبلة، وفضلًا عن اختزال الثورة إلى شكل واحد يعتمد التسليح الدوليّ بمعزل عن الأوضاع الملموسة، إنَّ ما يُقرِّر شكل الكفاح المسلح هو نسبة موازين القوى. من هنا، فإن شكل الكفاح وشعاراته وأهدافه ليست شيئًا ما يُخترع اختراعًا ويتقرر سلفًا، بل هو شيء يستنبط من خلال تحليل متواصل للواقع.

عقلنة الثورة

في الحالة السوريّة، مع العدوان الروسيّ وبعده، لسنا إزاء نظام يتقدم ومعارضة تسقط وحسب، بل إزاء مجتمع سوريّ يواجه عملية سحق، ستلقيه في مجاهل التاريخ بالتدريج.

ويُعمِّق هذا وعي محليّ وخصوصي غير عقلاني وغير واقعيّ -يعبر عن نفسه على الطالع والنازل- وعي ما زال اتكاليًا على ربّه، أو على الأميركان أو على الروس، لا يتكئ على العقلانية والواقعية والتنظيم والتوحيد والإرادة. وهل ثمة برهان أبلغ على هذا العفن الضارب في نقي العظم من انتقال السوريين من ذات فاعلة إلى موضوع للمعالجة!

إنَّ الإجابة عن مثل هذه الإشكالات تكمن في قدرة السوريين على عقلنة ثورتهم، وإلصاقها بواقعهم، وتعديل الخلل في ميزان القوى، وذلك من خلال استراتيجية تؤخر إسقاط النظام، ولا تتخلى عنه، وتغادر تموضعه كهدف تكتيكي مباشر وقريب وسريع موضوع في أمر اليوم لم نحصل منه إلا على اليأس المعمم؛ لاصطدامنا بصخرة الواقع والتكرار الدائم للمحاولات نفسها. استراتيجية صبورة ودؤوبة لحصاد ما تزرعه من عقلانية وواقعية وتعديل لموازين القوى. استراتيجية يمكنها حشد جميع طاقات السوريين، بتقديم خطاب يفسح المجال للأقليات لتزج نفسها في سيرورة الثورة، لا مناصبتها العداء، والدعوة لضربها بوصفها حاضنة للنظام.




المصدر