مشكلة الوردة


من بين المسائل “الشائكة” التي كنا ننشغل بها في شبابنا، مسألة مهام الكاتب في المجتمع، وقد اتخذ النقاش غالباً صبغة التشدّد في زمن كانت فيه القضايا “الكبرى” هي التي تشغل بال الجيل كله. وقد استقر رأي الأغلبية في تلك الحقبة، على توكيل الكاتب الروائي والشاعروالمسرحي بالنيابة عن المجتمع كله في حمل هموم الأمة التي كانت تضم مروحة واسعة، من بينها الوحدة العربية، والمقاومة، وإزالة آثار العدوان.
وراح المتشددون من بيننا يستشهدون بقصيدة محمود درويش التي يقول فيها: إنا نحب الورد/ لكنا نحب القمح أكثر. على اعتبار أن القمح يرمز لقضايا الأمة، بينما يشير الورد إلى العطالة الوطنية. ومن غير المعروف لي، ما إذا كان الشاعر الراحل قد واجه في شبابه مثل هذا التشدّد الفكري، الذي لا يعبأ بهموم الفرد، ويرى أن على الشاعر أن يمجّد الأمة والوطن والأفكار الكبرى فقط (في ما يكون أولئك الذين يهيمنون على المكان والفكرة، يلتهمون المكاسب اليومية) كي يضع هذه المعادلة غير العادلة بين الورد والقمح.

الظاهر هو أن القمح بهذا المعنى كان، وما يزال، هو الذي يتقدّم دائماً. فالمتابع للشهادات التي يكتبها الروائيون العرب، سوف يلاحظ أن الكلام عن الهموم الروائية يتراجع ـ غالباً ـ إلى مقام هامشي. وقد لا تجد أي انشغال في الشأن الفني فيها، على الرغم من أن الروائي يتحدّث عن “فن” الرواية. ومن النادر أن تجد مقدّمات على منوال ما كتبه وليم فوكنر في التعليق على رواية “الصخب والعنف”، ويحدث أمر مشابه في الحوارات” الأدبية”. إذ لا يكون في جعبة من يحاور الروائي أسئلة عن المشاغل الفنية، أو الكلام عن المشاغل الإنسانية كالموت ومعنى الوجود والعبث.
والمراقب للوضع السوري سوف يلاحظ شدة المساءلات، ويمكن أن نقول القسوة التي يتعرّض لها الكاتب. وقد زخر الواقع بالممنوع والمحبذ معاً، من قبل الجمهور الذي ينتظر الروائي، أو الكاتب، أو يترصّد شغله وأعماله. واللافت أن السؤال عن النص المطلوب من الروائي، يكاد يكون نوعاً من البحث عن موقع الكاتب في المجال العام، والترصّد لمضمون المشاركة التي سيقدّمها. أي أنه سوف يُسأل، بحسب موقف السائل: “ماذا كتبت عن الثورة؟” أو “ماذا كتبت عن الأحداث؟”، لا “كيف كتب؟” أكثر بكثير من البحث عن المكانة الأدبية، أو المنجز الفني الذي سيتحقق، فالسؤال عن “ماذا تكتب” لا يحفل كثيراً بكيف تكتب.
والخطير أن هناك من الكتّاب من يشعر منذ اليوم بالحرج، أو بالذنب، من العودة إلى الوردة. وقد تكون هذه واحدة من الأسباب التي تختفي وراءها آلام الأفراد كموضوع من جهة، وتتهمّش قضايا النوع الأدبي.
لا الثورة تمنح الروائي قيمة فنية، ولا الموالاة تحمي الروائي من السقوط. و”قدر” الكاتب هو أن يستمر في شغله، وأن يقول كلمته. وفي ما يبدو قول الكلمة واجباً وطنياً وأخلاقياً، أو تبدو بعض الموضوعات ملحة، فإن فن قول الكلمة لا يقلّ قيمة وأهمية وجسارة عن ذلك.



صدى الشام