العنصرية تنام في جيوبنا


صفاء مهنا

تتكون المجتمعات عادة من طبقات اجتماعية مختلفة، ساهمت في تشكيلها عوامل مختلفة، أهمها العامل الاقتصادي، حيث يتشابه أفراد الطبقة الواحدة بمجموعة صفات، تجعلهم ينضوون تحت هذه الطبقة أو تلك، ويعملون لحماية وجودهم الاجتماعي والاقتصادي داخلها.

لا يختلف المجتمع السوري -في هذا السياق- عن غيره من المجتمعات، لكن طبيعة النظام السياسي والنكسات المتتالية التي ألمت به شوّهت طريقة النمو الطبيعية للمجتمع، وأدخلت مفاهيم جديدة إلى بعض السكان، حيث تشكلت شرائح جديدة في السنوات السابقة لاندلاع الثورة السورية، لم نكن نسمع بها، وانعكس ذلك انعكاسًا عامًا اجتماعيًا وسلوكيًا على الناس.أخ

على الرغم من قِدَم الصراعات الطبقيّة في المجتمعات، إلا أن الأنظمة تلعب دورًا كبيرًا في المساهمة بتدعيمها والعمل على تجييرها إلى الاتجاه الذي تستفيد منه، وتوظيفها لخدمة مصالحها وبقائها، وهذا ما حصل في سورية، حيث أصبح من الواضح في المجتمع وجود خرق للطبقات كالطبقة المستفيدة من السلطة، أو المقرّبة منها والتي يتمتع أفرادها بامتيازات خاصة وتشعر بالسطوة بيدها حتى وإن لم تمتلك المال. في المقابل ظهرت طبقة أخرى مقرّبة من السلطة أثْرَتْ إثراءً سريعًا، وبين هذا وذاك ضاعت الطبقة المتوسطة، وغاب فعلها الحقيقي، تلك التي تُعطي المجتمع صفة “طبيعي” عندما تكون هي الأكبر فيه.

ربما هذا التوصيف ينسحب على المجتمعات العربية عامةً، فيما يغيب عن المجتمعات الغربية التي كان الصراع الطبقي فيها ما قبل الثورة الصناعية، وذلك يعود إلى الحالة الديمقراطية التي أصبحت عليها تلك المجتمعات، ونمو مفاهيم حقوق الإنسان وقوّة القانون.

لكن من جانب آخر، من الخطأ إغفال العادات والسلوك الاجتماعي والثقافة التربوية في مجتمعاتنا وأثرها في تعزيز وجود التناقضات الاجتماعية بين شرائح المجتمع، فلا أحد منا بغافل عن النظرة الدونية التي يقابل بها بعضهم في المدينة سكان الريف، بل يتعدى ذلك حدّ التحقير بوسم أحد أبناء المدينة بصفات تخص أبناء الريف، إن كانت من الناحية الشكلية أو السلوكية، بل أكثر من ذلك؛ إذ تَظهر العنصرية في المدينة الواحدة، أو القرية الواحدة، بين العائلات والأسر والأنساب، (عليّة القوم أو الوجهاء، فقراء القوم)،  مثل (الفلح، النازحين، شاوي)، كلمات كان يستخدمها بعضهم للتعبير عن حالة أو تصرف يعدّونه غير لائق، والحقيقة أنها كانت سائدة ولا يمكن نكرانها، إضافة إلى صفات أخرى كثيرة، في كل قرية أو مدينة.

عواصف النخوة

الفيديو الذي انتشر -في الآونة الأخيرة- على “يوتيوب”، وفيه فتيات من جامعة “ألبا” اللبنانية يُجِبْنَ عن سؤال: هل توافقين على “مواعدة” شاب سوري؟ إجابات متعالية. قُوبل الفيديو بردّات فعل من السوريين، لا تقل عنصرية عما أظهرت الفتيات من “عنصرية”.

يندرج الفيديو في إطار الصراع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي بين المجتمعات؛ حتى وإن كان الحديث -هنا- عن دولتين مختلفتين، لكن كلنا يعرف أن سورية ولبنان تمتلكان الحضارة نفسها، ولا يمكن قياس عشرات السنين، الأخيرة، من عمر سورية الكبرى بآلاف السنين من الحضارة والتاريخ.

من الضروري الوقوف عند هذه الحالة، والعمل على تحليلها، فهي -لا شك- صراعٌ أزلي، ساعدت الدكتاتوريات في ترسيخه؛ حيث هشّمت النسيج الاجتماعي وخرّبته، فمع تطور الحياة وأساليبها كان من المفترض أن تتقلص تلك المسافات بين شرائح المجتمع لا أن تزيد.

لو أخذنا ما جرى على صفحات التواصل الاجتماعي، بعد هذا الفيديو، على أنه استطلاع رأي، سنجد أن العنصرية لا تخلو من ثقافتنا جميعًا، فقد هبّت عواصف النخوة والحميّة لدى كثيرين للدفاع عن السوري، لتقذف اللبنانيات بأسوأ الألفاظ، كما وصف بعضهم الشباب اللبناني بالمخنثين، فيما ذهب آخرون للترحّم على الأيام التي كان فيها “الجيش السوري” مسيطرًا في لبنان”، في وقت من المفترض أن السوريين شربوا من كأس “الجيش السوري” المرارة نفسها التي ذاقها اللبنانيون.

هذا الطرح ليس دفاعًا عن مجتمع مقابل آخر، لكنه لتوضيح أن الفعل وردّ الفعل سيبقيان المحرك في مجتمعاتنا، بعيدًا عن التفكير بالعقل والمنطق، وستبقى “داحس والغبراء” مثالًا نستحضره كلما ألمّت بنا المصائب من هذا النوع، ففينا من تلك الخِصال ما يسهل جلبه وتفصيله على مقاييس الحاضر حتى وإن كنا في القرن الواحد والعشرين.

يبقى السؤال الأهم، لمصلحة من كان ظهور ذلك الفيديو؟ وكأن السوري حقق كل مقومات الحياة، ولا ينقصه إلا الخروج مع فتاة، ولماذا كان السوري واللبناني هما المستهدفان، في وقت نجد فيه كثيرًا من العائلات السورية وأخرى لبنانية تتصل بصلة قرابة، فالعلاقة بين المجتمعين ليست وليدة السنوات الخمس الماضية.

على ما يبدو لم تأخذ مجتمعاتنا حقها من النمو الطبيعي؛ كسائر المجتمعات التي انعتقت من الاستبداد، وإن الثورة السورية -بالتأكيد- ليست لإسقاط نظام سياسي واستبداله بنظام آخر فحسب، بل هي ثورة لبناء ثقافة مجتمعية جديدة، تطال جوانب الحياة كافة.




المصدر