سورية بين دستورين 1973 و2012


حبيب عيسى

لقد امتد “الخريف العربي” على مدى عقود، فقد بدأت رياحه الصفراء تهّب على الأمة منذ28 أيلول/ سبتمبر 1961،  تاريخ انفصال “الإقليم الشمالي” عن الجمهورية العربية المتحدة، وتحوّلت رياحُه تلك إلى عواصف هوجاء في أعوام 1967 و1970، وما بعدها، وآثار تلك العواصف المدمرة لم تقتصر على التفريط بالحقوق القومية والوطنية، فلم تكن صفقات “فصل القوات” و”كامب ديفيد” و”وادي عربة” و”أوسلو” والصفقات السرية بين النظام الإقليمي في الوطن العربي ومافيات الصهيونية وقوى الهيمنة الدولية، إلا ما يطفوا من جبل الجليد، حيث طغت مافيات الفساد والنهب والقمع وعصبويات ما قبل المواطنة على كل ما عداها، وباتت الدساتير والقوانين والقضاء والأنظمةُ مجرد واجهات شكلية لعصابات مافوية تنشر المخبرين والعسسَ والقتلةَ في كل الأرجاء، يثيرون الخوف والرعب والاستلاب؛ ما أدى إلى تدمير النسيج الاجتماعي والوطني العربي، واستُدرج -بالتدريج- المواطن العربي من الانتماء للأمة إلى الانتماء لعصبويات الطوائف والمذاهب والإثنيات، وما يعني ذلك من التوحش والتخلف والاستدعاء للطغاة والغزاة، وبالتالي؛ تدمير المؤسسات السياسية؛ وحتى مؤسسات “الدول الفعلية”، فلا المؤسسات التشريعية شرعيّة، ولا المؤسسات التنفيذية مؤسسات دولة، بالمعنى القانوني، وكان من الطبيعي أن يمتد هذا الوباء إلى المؤسسات القضائية، وهكذا كان الانتقال من ذلك الخريف المرعب إلى شتاء عربي حُلمًا يراود أبناء الأمة، على الرغم من إدراكهم أن عواصفه قد تكون أشد أثرًا، ومخاطره بالغة التدمير، قد تصل حد مخاطر الزلازل، لكن، إذا كان لا بد من عبور هذا الشتاء القارس في الطريق إلى “ربيع عربي” فليكن، بل، ومرحّبًا به فالطغاة والغزاة لم يكتفوا بحافة الهاوية، وإنما يسعون لإلقاء الأمة إلى قاع الهاوية…!

“رياح قرطاج”

هكذا كان “الربيع العربي” حلمًا على الرغم من وعورة الطريق إليه، وهكذا عندما انطلقت الرياح باتجاهه من قرطاج في أواخر عام 1910 خفقت له القلوب العربية من المحيط إلى الخليج العربي، على الرغم من المخاوف الذاتية والموضوعية من وعورة المسالك إلى ذلك “الربيع العربي” الذي طال انتظاره، خاصة أن سلطات الخريف المنوه عنه كانت قد جردّت المجتمع العربي من جميع الوسائل والأدوات التي تقود إلى “ربيع عربي”، عبر مسارات آمنة، فلا أحزاب، ولا قوى منظمة، ولا نقابات، ولا دساتير تُحترم ولا قوانين تُراعى ولا قضاء عادل مستقل، وبالتالي؛ كان السبيل الوحيد إلى الحرية هو حالات الانفجار الجماهيري التي تريد الانعتاق من القيود التي تكبل إرادتها، لكنها في الوقت ذاته لا تمتلك الرؤيا والأدوات والوسائل والأسلحة لمواجهة المخاطر التالية، والأهم من ذلك، لا تمتلك البوصلة لتجاوز حقول الألغام التي زرعها الطغاة والغزاة في أرجاء الوطن العربي، ومن ثم لا تمتلك أدوات إشادة البناء العربي الذي تريده هي في اليوم التالي لسقوط الطغاة، لهذا كان نشيدها الوطني: “الشعب يريد إسقاط النظام”، وعندما بدأ ذلك النظام “اللانظام” يتهاوى في بعض الأجزاء العربية، بدأت تلك الجماهير العربية تسترخي، وانشغلت بالاحتفال بتلك الانتصارات في بعض الأجزاء العربية، بينما كانت قوى التخلف التي كانت الضامن الاحتياطي لتسلط الطغاة والغزاة تستعد لتصدّر المشهد، وقي الوقت ذاته، غاب عن جماهير ميادين الحرية أن هذا “الربيع العربي” إما أن ينتصر بين المحيط والخليج، وإما أنه سيُهزم بينهما، ذلك أن الطغاة والغزاة في باقي الأجزاء، سينقضّون على ميادين الحرية ويعيدون طغاة جدد إلى الكراسي الشاغرة، وهكذا بدأت قوى الردة والتخلف، بالتكامل مع قوى العدوان الخارجي، متعدد الأطراف، الإعداد لهجوم مضاد، فهي تعرف تمامًا كيف تستغل ذلك الفراغ الذي تلا هجر الجماهير إلى ميادين الحرية، فاستدارت قوى الهيمنة الدولية الراعية للنظام الإقليمي البائد؛ لرعاية قوى الردة النائمة، وإطلاقها؛ للحد من رياح الربيع العربي، ولسد جميع الطرق باتجاه “الربيع العربي” المنشود، عبر إعادة رسم خرائط جديدة أكثر عدوانية على وطن الأمة وشعبها، وكانت سورية ساحة المواجهة المباشرة، فإما ينتصر الربيع العربي، وإما الردّة؛ فيحتفل الطغاة بإعادة تنصيب السيسي مبارك، والسبسي بن علي، والحوثي عبد الله صالح، وحفتر القذافي، والعبادي، وقد يتم تجديد تنجيد باقي الكراسي بين المحيط والخليج.

دساتير للديكور

على أي حال، هذا حديث له تداعياته المتشعبة خارج إطار هذا الحديث، وإن كان على اتصال جوهري به، ما يعنينا هنا آثار وتداعيات تلك الأحداث، وما ترتب عليها من الناحية الدستورية والقانونية، وخاصة ما يتعلق بإقرار دساتير جديدة في تونس ومصر واليمن والمغرب والسودان وسورية، دساتير متفاوتة من حيث الصياغة، ومن حيث الالتزام بها، ومن حيث استخدامها كديكور يغطي الارتداد إلى المراحل السابقة وممارساتها، وما يعنينا على وجه الأكثر خصوصية هو انعكاس ذلك على النواحي الدستورية والقانونية والقضائية في “دولة الجمهورية العربية السورية”.

لقد كان الدستور المعمول به في الجمهورية العربية السورية؛ حتى مطلع عام 2011، هو دستور 1973، والذي تم تعديله لمرتين فقط، الأولى كانت عام 1981؛ للتخلي عن علم اتحاد الجمهوريات العربية المتحدة، وقد تُرك الأمر -يومذاك- لرئيس الجمهورية لاختيار العلم البديل، والمرة الثانية كانت عام 2000؛ لتعديل السنّ القانوني لرئيس الجمهورية، من سن الأربعين إلى سن الأربعة والثلاثين، وقد تعرض ذلك الدستور لعدد من الانتقادات لكن عبر مناشير سرية صادرة عما تبقى من شراذم قوى سياسية مبعثرة وسرية ومقموعة، وكانت تلك الانتقادات تبدأ وتحوم حول المادة الثامنة من ذلك الدستور، وحقيقة الأمر، من الناحية القانونية، أن تلك المادة لم تكن تقتصر على ما تتضمنه من التسليم لحزب معين بقيادة الدولة والمجتمع، وإنما تمتد آثارها لتعطيل جميع مواد الدستور الأخرى المتعلقة بالحريات العامة، والمساواة، والفصل بين السلطات، لكن، ومع بدايات الحراك العلني الداعي للإصلاح والتغيير الذي تلا تسلم “رئيس الجمهورية” الجديد للسلطة، ابتداءً من منتصف عام 2000، انطلق الحلم بالتغيير إلى العلن انطلاقًا من الحلم بأن مرحلة جديدة قد بدأت، وُأُطلق عليها، يومئذ: “ربيع دمشق”؛ حيث بدأت الأصواتُ تجهرُ بالدعوة لتعديل ذلك الدستور، وخاصة المادة الثامنة منه، وإلغاء قانون الطوارئ، لكن ارتفعت الأصوات -في المقابل- من الجهة الأخرى بأن ذلك خط أحمر، ممنوع الاقتراب منه، وقد نالني يومذاك شخصيًا ما نالني، فقط لأنني -وكنت يومها الناطق الرسمي باسم منتدى جمال الأتاسي– حين وجّهت الدعوة في المنتدى، وفي جلسة كان يحضرها عديد من قيادات حزب البعث العربي الاشتراكي، للحوار الهادف والهادئ، حول تلك المادة الثامنة من الدستور، وقد خاطبتهم يومها: “أيها الأصدقاء: إن الدساتير لا تُصنع من حزب، أي حزب، قائدًا للدولة المجتمع، وما انتهت إليه الأمور في المعسكر الاشتراكي خير دليل على ذلك…”، باختصار شديد لم أطالب -آنذاك- بإلغاء تلك المادة، وإنما وجهت الدعوة للحوار حولها، لا أكثر، وكان ذلك كافيًا لعدّ تلك الدعوة جريمة اعتداء على الدستور، حيث حُشرت في زنزانة منفردة ما يقارب الخمس سنوات، عقوبةً على تلك الدعوة.

المادة الثامنة

المهم بعد ذلك، أن رياح “الربيع العربي” بدأت تهّب على دمشق بدءًا من آذار/ مارس2011، فتجددت المطالبة بتعديل الدستور المعمول به منذ عام 1973، ولا سيّما من ناحية إلغاء المادة الثامنة منه، والتي يحتكر بموجبها حزب البعث قيادة الدولة والمجتمع، وكذلك المطالبة بإلغاء قانون الطوارئ، وكان من المأمول يومئذ الاستجابة لتلك المطالب، عبر تهيئة الأجواء بوقف العنف وتعليق العمل بدستور 1973، وإلغاء قانون الطوارئ، وإلغاء القوانين الاستثنائية، وإطلاق المعتقلين، وتشكيل حكومة خبراء، تشرف على انتخاب هيئة تأسيسية تمثيلية حقيقة، تناط بها صياغة دستور جديد للبلاد، يتيح تداول السلطة والفصل بين السلطات وتحديد مدة ولاية رئيس الجمهورية بدورة واحدة، لمدة خمس سنوات، غير قابلة للتجديد، وكان الحلم يراودني يومئذ أن ذلك سيساهم في تجنيب البلاد الدخول في أتون هذه المحنة المأسوية التي نعيش الآن… لكن كانت -في المقابل- هناك آراء أخرى ترى النقيض، وتدعو لاستخدام القوة حتى الحد الأقصى، بل هناك من قال، ويقول حتى الآن: أن التراخي في استخدام القوة القصوى منذ البداية كان خطأ فادحًا، وأن ذلك التراخي هو الذي أدى إلى ما نحن فيه، على أي حال، هذا جدال مازال محتدمًا، وسنترك البت فيه للتاريخ، ما يعنينا الآن، وبما يتعلق بالدستور والقوانين، أن “رئيس الجمهورية” بعد ذلك علّق العمل بقانون الطوارئ، وفي الخامس عشر من تشرين الأول/ نوفمبر من عام 2011، أصدر بشار الأسد رئيس الجمهورية المرسوم الجمهوري رقم 33 القاضي بتأليف لجنة إعادة كتابة الدستور برئاسة المحامي مظهر العنبري المساهم الرئيس في وضع دستور 1973 ذاته، والمشكو منه، وقد تشكلت اللجنة من 29 عضوًا، وفي 27 شباط/ فبراير 2012 صدر المرسوم 94 القاضي باعتماد الدستور الجديد. والذي يُعرف بدستور 2012 وقد حافظ الدستور الجديد على أغلب بنود ومواد الدستور السابق 1973، ودعاه بعضهم بأنه “تنقيح للدستور” أكثر من كونه دستورًا جديدًا، فقد أضاف الدستور الجديد 14 مادة، وأدخل 47 تعديلًا على دستور 1973، وحافظ وأضاف على السلطات الواسعة لرئيس الجمهورية.

صحيح أنه ألغى المادة الثامنة من الدستورن الخاصة بقيادة حزب البعث للدولة والمجتمع لكنه ترك جميع الصلاحيات المطلقة الممنوحة لرئيس الجمهورية، والتي كانت القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي تحتكر ترشيحه، بل، وأضاف دستور 2012 عليها. ويتألف دستور 2012 من 157 مادة تتضمنها ستة أبواب، وتسعة فصول، ومقدمة، حيث: الباب الأول والثاني يتعلقان بالمبادئ الأساسية والحقوق والحريات وسيادة القانون، أما الباب الثالث فيتعلق بسلطات الدولة، والمحكمة الدستورية العليا التي أفرد لها “الباب الرابع”، في حين أفرد الباب الخامس لتعديل الدستور، والباب السادس للأحكام العامة والانتقالية.

“الحُكم للشعب”

لقد نصّ دستور 2012 على عدّ سورية “دولة ديموقراطية، ذات سيادة، لا يجوز التنازل عن أي جزء من أراضيها”، وأن النظام جمهوري، الحكم فيه للشعب؛ وحدد ذلك الدستور دين رئيس الجمهورية بالإسلام، والفقه الإسلامي كمصدر رئيس للتشريع، كما حدّد الدستور عاصمة الدولة بمدينة دمشق، واللغة الرسمية بالعربية، وقال بأنّ التعددية السياسيّة والاقتصاديّة مكفولة، وكذلك الحقوق الثقافية لمختلف مكونات الشعب؛ أما فيما يخصّ الحقوق العامة، فكانت كدستور 1973 حيث عدت “الحرية حق مقدس”، وحرّم الدستور التنصّت والاعتقال التعسفي والتفتيش والنفي والتعذيب والاعتداء على حرمة الحياة الخاصة والحرية الشخصية؛ وكفل الدستور حرية الاعتقاد والعمل لقاء أجر عادل، كما كفل حرية التظاهر والاجتماع وتكوين الأحزاب والجمعيات. وأول سلطة تطرق إليها الدستور هي السلطة التشريعية المنوطة بمجلس الشعب المنتخب لمدة أربع سنوات، دون أن يحدد الدستور عدد أعضاؤه، وحدّد نصف الأعضاء من العمال والفلاحين، أما رئيس الجمهورية فهو رئيس السلطة التنفيذيّة يُنتخب لمدة سبع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، كما أوجب أن يكون المرشح حاصلًا على توقيع 35 نائبًا من مجلس الشعب للترشح؛ أما الدعوة للانتخابات، فتتم عبر رئيس مجلس الشعب الذي يدعو للانتخابات الرئاسية خلال فترة شهرين إلى ثلاث أشهر من ولاية الرئيس القائم، ويُعتبر فائزًا من يحصل على الأغلبية المطلقة سواءً من الدورة الأولى أو بعد دورة الإعادة، وفي حال عدم انتخاب الخلف، يستمرّ الرئيس المنتهية ولايته على رأس السلطة حتى انتخاب خلفه، كما اعتبر الدستور رئيس الجمهورية غير مسؤول عن أعماله في إطار ممارسة صلاحياته التي نصّ عليها الدستور إلا في إطار “الخيانة العظمى” أما صلاحيات رئيس الجمهورية فهي:

* إصدار العفو الخاص ومنح الأوسمة ومخاطبة الشعب.

* تسمية نوابه وإعفائهم وتفويض بعض صلاحياته لهم.

فما الأثر الذي تركه دستور 2012 على السلطة القضائية؟، وكيف تمّت ترجمته واقعيًا؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه، بعد أن عرجنّا في بحثنا على المواثيق الدولية، والمبادئ الدستورية عامة، وعلى وجه الخصوص استعرضنا لمحة تاريخية لتحولات الحالة الدستورية في “دولة الجمهورية العربية السورية”.

لقد كان ذلك ضروريًا كتأسيس موضوعي للحديث عن واقع القضاء الآن في سورية، وعن إمكانية تأسيسه على أسس صحيحة، فعندما نكون أمام خلل دستوري يتعلق باستقلال السلطة القضائية، وفصل السلطات لا يمكن الحديث عن قضاء عادل سليم، لهذا، فإن حجر الأساس للتأسيس لقضاء عادل تتمثل في وضع دستور يعتمد قواعد دستورية تعتمد المواثيق الحقوقية الوطنية والإنسانية، والفصل بين السلطات، واستقلال القضاء.




المصدر