الأكراد… حلم الدولة وإمكانية الواقع


جلال زين الدين

يعتقد كثير من القادة الأكراد أنَّ لحظةَ الحُلمِ اقتربت جدًا، فلم يعد يفصلهم عنها -وفق اعتقادهم- سوى خطوات معدودات، فالإمكانات الذاتية، والأوضاع الإقليمية والدولية تدفعُ لولادة هذا الحلم واقعًا.

ويخالفُ هذا موقفَ قادةِ الحركة الكردية في العراق. فقد أحجم القادة الأكراد في العراق -حتى الآن- عن إعلان الانفصال. ربما لعدم توافر الوضع الإقليمي الملائم الذي يُعد أهم من الموقف الدولي، فقد رأى مسعود البرزاني وجلال طالباني، وغيرهما من الساسة الأكراد، أنَّ انفصالهم عن العراق ضمن دولة كردية غير وارد، وغير عملي، فأكراد العراق محاطون بدول فيها أقليّات كردية لم تحسم فيها قضية الأكراد بعد، ومجرد إغلاق الحدود يعني موت الدولة الوليدة. حيث لا منفذ لها على البحر.

يعي معظمُ الساسةِ الأكراد هذه الحقيقة جيدًا، فمن سوء حظهم أنهم منتشرون في أربع دول؛ فيشكلون 16 بالمئة إلى 20 بالمئة من سكان تركيا، و15 بالمئة في العراق ومثلها في إيران، أما في سورية فيشكلون 8 بالمئة من السكان، فلا يتجاوز عدد الكرد 30 مليونًا في هذه الدول، على أحسن التقديرات.

ولعب هذا التوزعُ دورًا رئيسًا في فشل قيام الدولة الكردية، فضلًا عن رفض الأنظمة في هذه الدول، على الرغم من اختلافها فيما بينها، وعلى الرغم من تعاقب أكثر من نظام في الدولة الواحدة قيامَ دولة كردية، فالشاه الإيراني أعدم مؤسس دولة مهاباد، قاضي محمد، والخميني عدّهم كفارًا؛ لتبرير قمعهم بشكل دموي، وأتاتورك ضيّق عليهم، وعدّ عليهم أنفاسهم، ولم يعترف بالقومية الكردية مطلقًا، وكذلك حال الحكومات التركية المتعاقبة؛ وصولًا إلى فترة الثمانينيات وحكومة “العدالة والتنمية” المنفتحة نسبيًا؛ إذ لا تُعارض هذه الحكومة المنفتحة قيام دولة كردية في تركيا وحسب، بل تعارض قيامها في أي دولة من دول الإقليم. وعملية “درع الفرات” شاهدٌ حيٌّ، فالتدخل التركي هدفه الحقيقي منع قيام دولة كردية، لا دعم الثورة والحرب على “داعش”، فالانفتاح التركي، مهما كان إيجابيًا، إلا أنّه يقف عند خطوط حمراء يتفق الساسة الأتراك معظمهم عليها.

وهم النجاح

وبالعودة لاقتراب الحلم الكردي، فإنّ الأكراد لا ينطلقون من العراق لتحقيق هذا الحلم، على الرغم من تمتعهم بحكم ذاتي في إقليم مستقل يحتوي ثروات، فالقادة الأكراد في العراق ما زالوا على رأي طالباني، وبالتالي؛ ما زالوا يرون أنّ الأوضاع غير مهيأة بعد.

بينما ينطلق حلم الدولة من سورية، ومن “حزب الاتحاد الديمقراطي” تحديدًا؛ إذ يمثل هذا الحزب ذراع “حزب العمال الكردستاني”، واستطاع، بدعم منه، تشكيل ميليشيات عسكرية سمّاها “وحدات حماية الشعب”، تولت مهمة تنفيذ الحلم.

ولعب قادة الحزب على التناقضات الداخلية والإقليمية، وحاولوا قنص الفرص، وممارسة الانتهازية مع الجميع لتحقيق هذا الهدف.

وبدا للوهلة الأولى نجاح الحزب في لعبته، ونجاحه السير في حقل الألغام السوري، فاستغل حاجة النظام لتحييد الشارع الكردي، الذي انخرط وبقوة بالثورة السورية في أيامها الأولى، ومارس الانتهازية لأبعد الحدود مع النظام السوري؛ حتى وصل الأمر لفرضه شروطًا على النظام، وتفرّده بمحافظة الحسكة بالسلاح الذي قدمه النظام له!

استثمر دعم النظام السوري في تصفية خصومه الأكراد الداخليين فصُفي مشعل تمو، وحُظر حزبه، وزج كل الأكراد المعارضين لسياسته في السجون أو نفيهم للخارج، وقد طرد أخيرًا “المجلس الوطني الكردي”؛ لتخلوَ له الساحة الكردية، واستثمر رضا النظام -بداية- عنه؛ لبناء علاقات جيدة مع إيران؛ بوصفها حليفًا إقليميًا يمثل معادلًا موضوعيًا للعدو التركي.

قدموا أنفسهم للروس على أنهم المعارضة المعتدلة، وحصلوا مقابل ذلك على دعمٍ سياسي، وعسكري، ومادي، فلم يفتأ وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، المطالبة بأن يكون الأكراد ممثلين بحزب صالح مسلم على طاولة المفاوضات، وفتحوا ممثلية في روسيا، أُغلقت -لاحقًا- في أعقاب زيارة أردوغان إلى روسيا.

وبقي تحالفهم مع أميركا بيضة القبّان التي رجّحت كفتهم في شمال شرقي سورية، فاعتمد عليهم الأميركان ذراعًا عسكرية على الأرض، لقتال تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، واعتمدت “وحدات الحماية” على الأميركان في تأمين غطاء جوي، وأجادت “وحدات حماية الشعب” قتال التنظيم، فاستثمرته الولايات المتحدة أيما استثمار؛ لتطهير المنطقة من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وغير “داعش”، وغضّت الولايات المتحدة الطرف عن كل شيء، مقابل مشاركة “وحدات حماية الشعب” في إنهاء “داعش”، فمُكِّنَ الأكراد من السيطرة على الأراضي السورية شرق الفرات، وسُمِحَ لهم بتهجير سكّان عشرات القرى العربية، في عملية تطهير عرقي واضحة المعالم.

“عقدة المنشار”

لكن ظهر فجأة “درع الفرات” بوصفه عقدة أمام المنشار؛ إذ قلب التدخل العسكري التركي الموازين، ليكتشف الأكراد أنّ الحلم مازال بعيدًا، ودونه عقبات، ولا سيما أنَّ التدخل التركي جاء نتيجة تفاهمات إقليمية ودولية.

وتذكّرَ الأكرادُ هنا الحقيقة التاريخية حول استخدام القوى الدولية والإقليمية لهم، كورقة ضغط موقتة للمساومات السياسية، فلا يمكن لأميركا أن تُفرط بعلاقتها مع دولة كتركيا، عضو حلف الناتو، وحليف استراتيجي؛ من أجل ميليشيا، ولا يمكن لإيران، مهما حرصت على النظام السوري، أن تقبل بقيام دولة كردية تهدد أمنها القومي.

أخطأ القادة الأكراد في قراءة المشهد السياسي، وتعرّوا تمامًا، بعد طلب بايدن الانسحاب -ولو شكليًا- إلى شرق الفرات.

تذكرَ الأكراد هنا “غدر” الدول نفسها التي تدعمهم اليوم، فهذه الدول “غدرت” بهم سابقًا، بدءًا من النظام السوري الذي طرد أوجلان، وأغلق معسكراته، ولاحق أفراد حزبه، وزجّ بهم في السجون، وقمعهم بوحشية عام 2004، وحرم كثيرًا منهم حقّ المواطنة، ووصل الأمر إلى عد التكلم بالكردية داخل المؤسسات الرسمية جريمة، تستوجب دخول سجون الأمن، مرورًا بإيران التي سحقت دولة مهاباد، وخذلت مصطفى البارازاني في اتفاقية الجزائر، أما الروس فكانت يدهم، على مدار قرن، سوداء مع الأكراد، تقطر من دمهم. فتهجير ستالين لآلاف الأكراد إلى صحراء كازاخستان وسيبيريا، كان لمنع قيام دولة كردية قومية، فضلًا عن أميركا التي استثنى رئيسها -قبل مئة عام- الأكراد من إقامة دولة على تركة الدولة العثمانية، مرورًا بدورهم في إنهاء دولة مهاباد، ودعمهم لحكومة تشيلر التركية عام 1993، في سحق “حزب العمال”، فضلًا عن إلقاء القبض على أوجلان وتسليمه إلى تركيا، ولا يخفى -حاليًا- استثمار الولايات لقوات حماية الشعب. وتتطلع الولايات المتحدة لاستثمارهم في السيطرة على الرقة وريفها، وبعد ذلك ستتركهم.

“لم يَصدُق” أحدٌ مع الأكراد عبر التاريخ في تحقيق حلمهم، واستخدمهم الجميع مطية لتحقيق مآربهم ومصالحهم، فهل يعي ساسة الأكراد الحقيقة؟ أم أنهم ماضون في دفع الدماء من أجل مشروعات الآخرين؟




المصدر