الإصلاح الديني ومآلاته


يوسف سلامة

عندما يجري الحديث عن “الإصلاح الديني” لا يصعب على المرء أن يُلاحظ أن الحوارات والنقاشات التي تتعلق بهذا الموضوع، ظلّت حوارات ومناقشات منحصرة ضمن إطار ضيق، لا يتجاوز الدائرة النخبوية إلى الفضاء العام، والذي لا يكون كذلك، إلا إذا كان الجمهور جزءًا منه.

إذ يبدو أن الإطار النخبوي الذي فرضه (الغزالي)، على المناقشات الكلامية والفلسفية في القرن الخامس الهجري، ما يزال ساريًا وبقوة. ومن المعروف أن واحدًا من أشهر كتب الغزالي وأشدها تأثيرًا في الثقافة الإسلامية (إلجام العوام عن علم الكلام)، قد فرض على تلك المناقشات إطارًا نخبويًا متشددًا عندما فرض حظرًا -هو أقرب إلى الفتوى الشرعية- منع بموجبه كل طبقات المثقفين من الخوض في القضايا الفلسفية والكلامية، ولم يستثن من ذلك إلا المتصوفة الذين انتهى الغزالي، في أخريات أيامه، إلى أن يكون واحدًا منهم.

ويبدو أن هذا التقليد قد راق لعلماء السنة والشيعة، على حد سواء، فاحتكروا لأنفسهم حق الفُتيا. فلم يعد للجمهور من حق إلا حق السؤال، الذي يُرتب على الجمهور، في مقابل ذلك، واجب الطاعة التي على المستفتي أن يظهرها بكل وضوح للمفتي السني، أو المرجع الشيعي، ولقد اكتملت حلقات هذه الدائرة –إغلاقًا وانغلاقًا- عندما أٌعلن عن غلق باب الاجتهاد في الفقه. ومن ثم؛ لم يعد من المسلمين –نخبة وعامة- إلا الدوران في فلك الفقه القديم.

في ضوء هذا الحصار الفكري، الذي أفضى إلى سلب المؤمنين حق التفكير في الشريعة ومراجعتها، كان من المعقول أن يُنظر إلى “الإصلاح الديني” على أنه صورة من صور اليقظة لعقل المسلم وضميره، تستهدف التحرر من روح التقليد، التي حالت بين العقل وسبل التفكير الجديدة، مثلما حالت بين الإرادة وبين امتلاك الأدوات الضرورية لنقد عالمها القديم ودحره، واستحداث عالم جديد يحترم حرية الإنسان، ويُقدس كرامة العقل في آن معًا.

ذلكم ما كان يمكن للمرء أن يتوقعه من الإصلاح الديني. ولكن هذا الإصلاح، في الحقيقة، لم يف بأي وعد من وعوده المحتملة. وما من شك في أن ذلك راجع إلى أن صورة هذا الإصلاح، التي كُتبت لها الغلبة والسيطرة على الذهنية الإسلامية، لم تكن لتختلف عن صورة التفكير التي كانت سائدة في مرحلة ما قبل إغلاق باب الاجتهاد.

وعلى أي حال، فقد خشي الجميع، منذ البداية، أن تعني عبارة “الإصلاح الديني” أن أمرًا ما غير مستحب قد أصاب الدين أو ألمّ به. فبمقتضى إضافة “الإصلاح” إلى الدين، أو “الدين” إلى الإصلاح أصبح بوسع العقل البشري أن يتساءل: وهل الدين يفسد؟ وإذا كان من الممكن للفساد أن يتطرق إلى الدين، فهل بوسع العقل أن يُصلح ما فسد في الدين؟ هذه الأسئلة الخطِرة هزّت كيان المسلمين، وبثت الرعب في نفوسهم وعقولهم، وما تزال. فآثرت الأكثرية تفاديها والهروب من المسؤوليات الحقيقية التي يتعين على العقل أداؤها، أعني بذلك المواجهة النقدية مع الشريعة التي لن يتقدم المسلمون إلا إذا نهضوا بهذه المهمة المصيرية.

وهكذا؛ اتضح -منذ البداية- أن هذا الفهم النقدي والمتحرر للإصلاح الديني غير مقبول، لا من العامة ولا من الخاصة، ولذا؛ لم يكن لهذا المصطلح أن يعني لدى الغالبية أو يشير إلى إمكان مناقشة كل مبادئ الدين أو بعضها. فكل ما كان يمكن قبوله هو أن أمرًا ما قد داخلَ الدين أو خالطه من خارجه. ومن ثم؛ لم يعد للإصلاح الديني من مهمة، بمقتضى هذا الفهم، سوى تطهير الدين مما علق به من الشوائب، التي حالما يطهر منها ويعود إلى نقاءه يكون الإصلاح الديني قد حقق أغراضه، وبالأحرى لا يعود للإصلاح الديني من مهمة يؤديها.

ولعل هذا الموقف كاف ليفسر لنا ميل جميع تيارات الإصلاح الديني إلى الإلقاء باللائمة على الإنسان –وبالأحرى على المسلم- الذي إما أنه غاير الدين ومنظوماته المعيارية في سلوكه الفردي والاجتماعي؛ وحتى في علاقته بربه، فاستُبعد بذلك الدين وأُخرج من دائرة النقد والمناقشة بالكامل؛ وهذا ما ذهب إليه التيار الأكثر تشددًا في الإصلاح الديني، التيار الوهابي أو تيار الإسلام الصحراوي، وإما أن الإنسان لم يستطع أن ينتفع بما في الدين من قواعد شرعية وأخلاقية وعملية، ويعيد صياغتها لتصبح متوائمة مع العصر الجديد، أو أن يصبح العصر الجديد متوائمًا معها، بحيث يظل المرء، في الوقت نفسه، مسلمًا حنيفًا، وقادرًا على التوفيق بين القواعد الدينية العتيقة ومقتضيات العالم الجديد؛ وهذا هو موقف التيار الأقل تشددًا، أي تيار الإصلاح الديني المدني، أو التيار الشامي – المصري.

والنتيجة النهائية لكل هذه المناقشات، التي تستخلص من فكر الإصلاح الديني، هي أن قواعد الدين صالحة لكل زمان ومكان. وهكذا أصبحت مهمة الإصلاح الديني مهمة مستحيلة، وأصبح كل من يفكر في إنجازها، بصورة حقيقية، مُعرضًا للاتهام بالكفر والزندقة.

ومن شأن تحليل الأسئلة التي طرحها تيارا الإصلاح الديني، المذكوران أعلاه، أن يؤكد جملة النتائج السلبية التي انتهى إليها الإصلاح الديني. فهذان التياران يطرحان سؤالًا واحدًا، تنتهي الإجابة عنه بلوم الإنسان، وبإدانة الزمان والتاريخ. وكل ذلك بسبب التغير والصيرورة التي اعترت الحياة عبر القرون من ناحية، ومن ناحية أخرى، بسبب التفاعل الإيجابي بين المسلم وقوانين الصيرورة التاريخية.

لقد كان السؤال الرئيس لدى ممثلي التيار الوهابي الأكثر تشددًا، هو ما إن كان الإنسان –بالأحرى المسلم- قد ابتعد عن الدين واغترب عنه وخالف تعاليمه وأهمل مقدساته، وعمل بمقتضى هواه، وبوحي من عقله، بدلًا من العمل بوحي من الهداية الإلهية التي لا تُخطئ، ما اعتصم الإنسان بالقيم الأبدية التي تفرضها الشريعة على المسلم؟

أما السؤال الذي طرحه تيار الإصلاح المدني الأقل تشددًا، فقد انصبّ حول الدين نفسه، -على الأقل- من حيث الظاهر. وهو ما إن كان ثمة ما ينبغي عمله أو إصلاحه في بنية الدين ذاته؛ حتى يستعيد فاعليته وقدرته على التوائم مع الأوضاع المستجدة في العالم الجديد. ولكن الصيغة الحقيقية لهذا السؤال تتعلق بالإنسان لا بالدين. إنهم يتساءلون عما إذا كان السبب في تخلف المسلمين يرجع إلى تقصير القائمين على خدمة الدين والمشتغلين به في الوفاء بالمتطلبات الضرورية التي ترتقي بالدين؛ لتجعله قادرًا على تقديم إجابة عصرية عن الأسئلة الجديدة التي يطرحها العصر على عقل المسلم وضميره؛ بسبب ما طرأ من تغيرات وتطورات في مجال القيم والأفكار وطُرز العيش وأساليب التفكير؛ مما لم يعد معه الإسلام قادرًا على مواكبتها، واتخاذ موقف واضح منها، قبولًا أو رفضًا؟

الشريعة ليست في حاجة إلى أي إصلاح؛ لأن قواعدها صالحة لكل زمان ومكان. أما مدار الإصلاح، فينبغي أن يكون الإنسان محورًا له. على الإنسان أن يصلح نفسه بأن يلغي قرونًا من التقدم والتطور ليتطابق -سلوكًا وفكرًا- مع لحظة الانبعاث الأولى التي يمثلها السلف الصالح. هذا ما تطلبه الوهابية من الإنسان ليكون صالحًا.

أما التيار المدني، فيطلب إلى الإنسان أن يصلح منطقه وأفكاره، وأن يؤمن بأن الصور الأبدية للشريعة قادرة -بصورة لا متناهية- على استيعاب كل مضامين التقدم التي تبتكرها الإنسانية، من غير أن يدخل أي تعديل أو تطوير على الصور الخالدة للشريعة. نحن هنا -إذن- بإزاء وهابية مقلوبة. فإذا كانت الوهابية تلغي الماضي بأكمله، فإن الصورة الثانية للإصلاح تتجاهل المضمون الحقيقي للمستقبل، لحساب الصور الفارغة من المضمون للأحكام والفتاوى.

تلكم هي المآلات الأخيرة لمشروع الإصلاح الديني الذي استنفد كل إمكاناته، ولم يعد قادرًا، في ضوء الأحداث الأخيرة في الشرق الأوسط، على أن يمد المسلمين بما يتجاوز الحدود التي رسمناها.




المصدر