لو استمع الحكام لحاجات الشباب ما تمردوا ولاتطرف بعضُهم


لطالما شكلت تقارير التنمية الإنسانية العربية التي صدرت على مدى سنوات، من إعداد مجموعة باحثين عرب مستقلين، مع دعم من «برنامج الأمم المتحدة الإنمائي»، بوصلة للحكومات لقراءة النواقص في البنى المجتمعية العربية التي تعوق بناء التنمية الإنسانية، وحضها على معالجتها. وللتذكير فقط فإن أول التقارير ركز عام 2002 على مسائل «الحرية والتعليم وتمكين النساء» وتناول الثاني في العام 2003 «نقص المعرفة في العالم العربي، وتحديداً علاقة الرابطة بين الدين والتعليم الحديث». وركز الثالث في العام 2004 على «الحرية في العالم العربي»، مناقشاً «نظم الحكم وأشكال استغلال السلطة والأبعاد القانونية والمؤسساتية والدينية للإصلاح السياسي»، وتوقف الرابع عند قضية «عدم المساواة الاجتماعية بين الجنسين كعائق أمام التنمية الإنسانية في العالم العربي». وتناول التقرير الخامس عام 2009 قضية «أمن الإنسان في الدول العربية»، ليخلص الى «أن قلة الأمن من أهم المعوقات التي تؤخر التنمية في العالم العربي».

التقرير السادس
قبل أيام ولد التقرير السادس، وخصص لمعالجة قضية «الشباب وآفاق التنمية في واقع متغيّر»، وهو يأتي بعد خمس سنوات على أحداث 2011 او ما عرف بـ «الربيع العربي»، وساهم في إعداده فريق من خبراء وباحثين عرب وبينهم أكاديميون في الجامعة الأميركية في بيروت. واذا كان بعض التقارير السابقة شديد الوطأة على الحكام العرب وصاعقاً في التأكيد وبالأرقام «أن العرب متخلفون عن مسيرة العالم» الى حد تظلم بعضهم بأن ما يرد في هذه التقارير هو «لسان الغرب لكن باللغة العربية»، ونكران بعضهم الآخر للمواجع التي تستفحل في الجسم العربي المريض، فإن أحداث 2011 وما تبعها أكدت أحقية ما كانت تنادي به التقارير الأربعة ومن خلفها الباحثون العرب، ليظهر التقرير الأخير مدى الحاجة الماسة الى الاستماع الى الشباب العرب الذين يمثلون 60 في المئة من سكان المجتمعات العربية ورغبتهم في المشاركة في التغيير من خلال إعطائهم الفرص.
في حفلة إطلاق التقرير، قال رئيس الجامعة الأميركية في بيروت فضلو خوري إن الشباب العربي لا ينتظر اتفاقاً اميركياً – روسياً على بلدانهم لصنع مستقبلهم، هم لا يريدون عملية انقاذ انما يريدون منحهم الفرصة لصنع مستقبلهم. فالتقرير الذي يدعو الدول العربية إلى الاستثمار في شبابها، وتمكينهم من الانخراط في عمليات التنمية
يقدم حجتين لهذا الاستثمار، الحجة الأولى «أن ما يقارب ثلث سكّان المنطقة هم من الشباب في أعمار 15 – 29 سنة (يقدر عددهم بأكثر من مئة مليون)، وهناك ثلث آخر يقل عمرهم عن 15 سنة ما «يوفر فرصة تاريخية يتحتّم على البلدان العربية اغتنامها»، وفق مديرة برنامج الأمم المتحدة الانمائي هيلين كلارك.
وتؤكد مديرة المكتب الإقليمي للدول العربية بالإنابة في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي صوفي دو كاين «أن الشباب في المنطقة العربية لا يمثلون مشكلة لعملية التنمية أو عبئاً عليها، وإنما هم مورد أساسي لحل مشكلات التنمية في هذه المنطقة، وفي وسع البلدان العربية تحقيق طفرة تنموية هائلة، وضمان استقرار مستدام، إذا وضعت على رأس أوْلويّاتها العاجلة تمكين شبابها والاعتماد عليهم لدفع عجلة العملية التنموية».

التحولات
يجزم التقرير بأن موجة الاحتجاجات التي اجتاحت بلداناً عربية منذ العام 2011،
وكان الشباب عصبها، أفضت إلى تحولات كبيرة عبر المنطقة كلها. ويعدد التقرير في الجانب المضيء من هذه التحولات أن «بعض البلدان شهد وضع دساتير وطنية جديدة، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وتوسيع نطاق المشاركة العامة لمجموعات كانت مستبعدة في السابق، وفي المقابل، واجهت التوازنات الحاكمة في بلدان أخرى والتي طالما حافظت على الاستقرار تحديات خطرة أسفرت عن نزاعات استطال أمد العديد منها».
ويستكشف التقرير تحديات عديدة تواجه الشباب في المنطقة العربية، فلا يزال كثيرون منهم يتلقّون تعليماً لا يعكس احتياجات سوق العمل، فيما أعداد كبيرة منهم، لا سيّما من الشابات، عاطلون من العمل ومستبعدون من الاقتصاد الرسمي. ومن دون موْرد رزْق، فيجد الشباب صعوبة كبيرة في تحقيق تطلعاتهم المشروعة في الزواج والحصول على سكن ملائم لتأسيس بيوتهم وأسرهم المستقلة. والأخطر أن هؤلاء الشباب يقعون فرائس الإحباط، والشعور بالعجز، والاغتراب، والتبعية، بدلاً من أن ينصرفوا الى استكشاف الفرص المتاحة واستشراف آفاق المستقبل.

الصراعات تلتهم الشباب
لا شك في أن الشباب في أنحاء المنطقة العربية تأثّروا على نحو خطير بالأزمات الأخيرة التي أصابت المنطقة، ويشير التقرير الى أن «العديد منهم جرفوا إلى الخطوط الأمامية لصراعات لم يبدأوها. فمات كثيرون، وفقدت أعداد أكبر منهم، وفي مواجهة تحدّيات كهذه، انْضمّ بعضهم إلى جماعات متطرّفة.
وقال منسق التقرير عادل عبداللطيف (مستشار شؤون السياسات- المكتب الاقليمي للدول العربية في برنامج الامم المتحدة الانمائي) ان موضوع التطرف ليس جديداً على المنطقة العربية وشهدت العقود الماضية ممارسات عنف باسم الدين او بوسائل اخرى لتغيير السلطة، لكنها اكتسبت بعداً جديداً مع ظهور تنظيم «داعش»، مشيراً الى أن بين المتطرفين متعلمين، في وقت يقدر رئيس فريق التقرير الاستاذ المساعد للاقتصاد في الجامعة الأميركية في بيروت جاد شعبان عدد الشباب المنخرطين في اعمال التطرف بنحو 50 الفاً اما الباقون ففي مكان آخر».
ويلحظ شعبان أن الزيادة في تلقي التعليم بين الشباب العربي قابلتها زيادة في الفقر نتيجة الاقتصاد الريعي وانعدام العدالة الاجتماعية والفروق الطبقية التي تزيد الهوة وانعاكس كل ذلك على الشباب، في وقت لم تستثمر الطفرة المالية التي شهدتها دول عربية لتأمين فرص عمل جدية للشباب، وعلى سبيل المثال فإن نسبة وصول الشباب العربي الى وسائل التواصل الاجتماعي تصل الى 70 في المئة إلا أن لا فرص عمل لهؤلاء في هذا القطاع المتشعب.
ويشير عبداللطيف الى أن المشاركة السياسية للشباب موضوع مؤجل، فالأولوية كانت دائماً للتنمية الاقتصادية، واستمر الحكم على حاله ولم تحصل مشاركة سياسية إنما بقي الشباب الجانب المتلقي فقط. ويقول انه بغض النظر عما حصل بعد مشاركة الشباب في الربيع العربي فإن هناك نقاطاً مضيئة، في تونس تم صوغ دستور وفي الكويت صار للناس رأي يعبرون عنه في الانتخابات مخالف لرأي السلطة. وباتت كل حكومة تريد اتخاذ قرار ما تتوقع ضغط الشارع، ولم يعد صانع القرار منفرداً كما السابق وكان يتمتع بتفرده، وبعد 2011 تغيرت الأمور، ولو ان حكومات استوعبت هذه المسائل قبلاً وغيرت من خلال الانتخابات لكانت الأمور في دول عربية اتخذت منحى آخر، ولو أخذت مطالب الشباب في حينه في الاعتبار ولم يتم نكران استطلاعات رأي (كان يتم حذف اسئلة من استطلاعات الرأي من جانب حكومات قبل المباشرة فيها) وقمع احتجاج في الشارع لكانت الأمور مختلفة.

كيفية الاستجابة
استجابة لهذه التحدّيات، دعا التقرير إلى «تمكين الشباب من منظور التنمية الإنسانية بتوسيع للخيارات والحرّيات المتاحة للناس كي يعيشوا حياتهم كما يبتغونها ويثمّنونها، وتعزيز قدراتهم، ما يستوجب تحسين منظومات الخدمات الأساسية، خصوصاً في مجالي التعليم والصحة، وتوسيع نطاق الفرص المتاحة للشباب من خلال اقتصادات تولّد عملاً لائقاً وتشجع ريادة الأعمال، وبيئات سياسية تشجع حرية التعبير والمشاركة الفاعلة، ونظم اجتماعية تعزّز المساواة وتعمل ضدّ كل أنواع التمييز».
وينبه التقرير إلى أن سياسات وممارسات الإقصاء في مختلف المجالات، وعدم كفاية الحماية الموفّرة للحريات العامة وحقوق الإنسان، وضعف التنافسية الاقتصادية، والتقصير في إرساء دعائم الحكم الرشيد، لا سيّما في جوانبه المتعلقة بالشفّافية والمساءلة، تهدّد مستقبل الشباب وآفاقهم في شكل متزايد. وتستقطب هذه العوامل بعض الشباب إلى مواقع معرقلة للتنمية، بما في ذلك إيديولوجيات التطرّف العنيف؛ خصوصاً في ظلّ ما تشهده بلدان عدّة من تعاظم في وتيرة النزاعات، وهشاشة مؤسسات الدولة، واختلال العلاقة بين السلطة السّياسية والقوى المجتمعية».

حذار التجاهل
وحذر التقرير الى أن مواصلة «تجاهل أصوات الشباب وامكاناتهم، والاكتفاء بمبادرات صوريّة أو مجتزأة لا تغيّر واقعهم، يذكيان اغترابهم عن مجتمعاتهم أكثر من أيّ وقت مضى، ويدفعانهم إلى التحوّل من قوة بنّاءة في خدمة التنمية إلى قوة هدّامة تساهم في إطالة حال عدم الاستقرار، وتهدد أمن الإنسان العربي بمختلف أبعاده، التي أثارها تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2009، في شكل خطير قد يجهض عملية التنمية برمّتها». وهو يدعو إلى إعادة صوغ السياسات العامة في البلدان العربية، على المستويين الكلّي والقطاعي، حول نموذج جديد للتنمية، جدير بالشباب في ظلّ الواقع المتغير الذي تعيشه المنطقة اليوم على الصعيدين الاقتصادي والسياسي.
الشابات والفتيات ضحايا النزاعات
تهدد الحروب والصراعات المسلحة التي تشهدها بلدان عربية الفتيات والشابات على نحو خاص، إذ يتعرضن لفظائع وصدمات حادّة، بما فيها الزواج القسري والعنف القائم على النوع الاجتماعي، خصوصاً الاغتصاب. فبعض العائلات تزوِّج بناتها الصغيرات، غالباً على مضض، بهدف تأمين حمايتهن، لكن الزوجات الصغيرات في السنّ أكثر عرضة لمعاناة العنف المنزلي والمشاكل الصحية، ولعوائق ستمنعهن من العودة إلى الدراسة.
ووفقاً لمنظمة «يونيسف»، يشكِّل العنف القائم على النوع الاجتماعي في حالات النزاع ممارسة شائعة على نحو لا يطاق. وتؤدي النزاعات أيضاً الى تهميش المرأة في الحياة العامة، وتقويةِ المجتمعِ الأبَوي، وزيادة اعتماد الشابات على أفراد الأسرة للحماية، ما يهدد حرية المرأة في نواح كثيرة، ويؤثر خصوصاً في ربات الأسر الوحيدات. وفرار الشابّات من النزاع لا يعني أنهُنّ أصبحن آمنات، لأنّ النزوح يتركهن في خطر كبير بسبب انعدام الأمن، بما في ذلك في مخيّمات اللاجئين، حيث تتعرّضُ الشابّاتُ غيرُ المرافقات أكثر من غيرهن للعنف القائم على النوع الاجتماعي، وكذلك الأمر بالنسبة إلى النساء من أقليات عرقية.
الدين كمنظومة قيم
أظهرت دراسة مسْحية، شملت كلاً من تونس والجزائر وليبيا ومصر والمغرب أنّ النسبةَ الغالبة من الشباب تؤيِّد بدرجات متفاوتة، الفصلَ بين الدِّين والسياسة. ويرى غالبية الشباب في المنطقة العربية أنّ «داعش» تُمثّل الإرهاب والقتل، وأن البطالة والفقر ونقص الوعي والإغراءات الماديةَ من الأسباب التي قد تُحفّز بعض الشباب على الانضمام إلى المجموعات المتطرفة.
في الأردن، أظهرت دراسة مسْحية شملت ما يزيد على 25 ألفاً من طلبة الجامعات الأردنية أن 94 في المئة منهم يعتبرون أنّ الجماعات والتنظيمات المتطرفة لا تُمثِّل وجهةَ نظرهم. والوضع مشابه في تونس، حيث تؤكّد دراسات المرصد الوطني للشباب التونسي أنّ النسبةَ الغالبة من الشباب تنبذ العنف؛ فيما تُظهر دراسة ميدانية أجرتها مؤسسة الدّوحة أن الشباب في البلدان العربية يُفرقون بوضوح بين الدين كمنظومة قيم وبين استخدامه كأيديولوجيا تَحضّ على المواجهة مع الآخَر؛ إذ يرفضون في غالبيّتِهم العظمى العنف الذي يُمارس باسْم الدين، وينظرون إلى الجماعاتِ المتطرّفة بوصْفها إرهابيّةً.
الفساد … ألف بليون دولار في نصف قرن
أكّدت أحداثُ العام 2011 وما تلاها أنّ الفساد يشكل تحدياً رئيسياً بالنسبة إلى المنطقة. ويتّضح من المعلومات المتاحة والمتابعة الحثيثة للموضوع خلال العقود الأخيرة، أنّ الفساد أدّى إلى إهدار موارد ضخمة تقدر المنظمةُ العربية لمكافحة الفساد قيمتَها بألف بليون دولار خلال خمسين سنة، وترى الشبكةُ العربية لتعزيز النزاهة ومكافحة الفساد أنّها كانت مبالغ هائلة يُمكن استثمارها في إيجاد فرص عمل وتحسين جودة الخدمات الأساسية. وأسهم الفسادُ أيضاً، وعن سابق تصوُّرٍ وتصميم، في ترسيخ نموذج اقتصادي إقصائي أدّى إلى ضرب مسيرة التنمية في المنطقة.
مع بدء التحوّل إلى اقتصاد السوق في ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته، كان يُفترض بصنّاع القرار تمكينُ القطاع الخاص كي يُسهم في التنمية، لكن وجود الفساد والتقصير في مكافحته منعا نمو هذا القطاع في شكل صحي ومسؤول فأخل الفساد بمبدأ حياد الإدارة، وجعل القطاعَ الخاصَّ الناشئ معتمداً على رضا السياسيين، كما ربط الفرص الاقتصادية الموجودة، على قلّتها، بالعلاقات وليس بقواعد السوق. وأدّى ذلك إلى بروز تحالفات سياسية – اقتصادية دأبت على توجيه السياسات العامة وموارد المجتمع لخدمة مصالحها الشخصية، في غياب آليّاتٍ فاعلة تضمن الشفافية والمساءلة.
وأسهم هذا الوضع في حرمان المنطقة من ثمار الاندماج في الاقتصاد العالمي. وترافق ذلك مع خلل في استثمارات الدولة نفسها، حيث دفع نهم التربح لدى بعض المسؤولين إلى تحويلِ مصاريف الدولة نحو مشاريع عالية الكلفة ومخفوضة المردود، أو نحو عقود شراء أسلحة ومعدّات مكلفة يَغلب عليها طابع السرية وعدم الوضوح، بدل توظيفها في قطاعاتٍ منتجة. وحتى في حالات تحقيق نموٍّ ملحوظ في الناتج الوطني الإجمالي، تبين الدراسات الاقتصادية – الاجتماعية أنّ الثمار لم تجنها إلا نخب قليلة دأبت على استخدام سلطتها للحصول على أكبر قدر ممكن من المنافع وتوزيعِها على المؤيدين لضمان استدامتها، ما وسع الفوارق المجتمعية، ودفع بالناس إلى التمرد. وكان الشبابُ في مقدمة المتمردين، بعد أن ولّد واقعُ الفساد والتنمية لديهم شعوراً باليأس وفقدانِ الأمل في الحراك الاجتماعي.
إن إحراز تقدم يرضي الشباب، ويتيح للمنطقة العربية توظيف إمكاناتها الهائلة في تسريع وتيرة التنمية ومعالجة القصور الحاصل، يتطلب وعياً عالياً من جانب النُّخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتعاوناً وثيقاً بين مختلف الأطراف المعنيين، بمن فيهم الشباب لترسيخ ثقافة طاردة للفساد، وتطبيق المعايير الدَّولية المنبثقة من اتفاقية الأمم المتّحدة لمكافحة الفساد، ووضع وتنفيذ استراتيجيات وطنية فاعلة ومنسَّقة تستهدف أولويات واضحة وذات تأثير مباشر على تنافُسية القطاع الخاص، وجُودة الخدمات الأساسية ونزاهتها، وقدرة الدولة على تحصيل الموارد لإعادة استثمارها في التنمية على نحو شفّاف وقابل للمساءلة.



صدى الشام