هل يفتتح فيون الجمهورية السادسة؟

5 كانون الأول (ديسمبر - دجنبر)، 2016
10 minutes

حذام زهور عدي

عندما دخل ديغول فرنسا محررًا، أعلن الفرنسيون أن الجمهورية الخامسة بدأت مع تنصيبه رئيسًا على فرنسا المحررة، ولم يكن انتخابه غريبًا ولا مفاجئًا، فهو من زعماء العالم القلائل الذين اقترن نضالهم التحرري بقيم أخلاقية نادرة، إذ تمثلت في شخصه قيم الثورة الفرنسية كلامًا ومواقف وسلوكًا حياتيًا، لقد حافظ بجدارة على “مجد فرنسا”، فكان المجد في الرئاسة، كما كان في الاستقالة الشهيرة بعد التصويت على رفض الشعب لمشروعات قوانين رآها حلًا لمشكلات بلده، على الرغم من الفارق البسيط بين من أيده ومن عارضه، لكن الديموقراطية كانت بالنسبة له مسألة لا مساومة بها أو عليها، ولذلك؛ بقي رمزًا للفرنسيين الذين اتفقوا على احترامه وتخليده في تاريخهم، ومن أجل هذا، بقي ورثته -الذين شكلوا حزبًا باسمه- يتناوبون في حكم فرنسا، ولم يستطع أحد منهم أن يطاوله بالزعامة والنبل والحنكة التي امتلكها، ليس لأن أوضاع العالم تغيرت فحسب، وإنما لأنه قائد استثنائي في وقت استثنائي أيضًا… مع أنهم احتفظوا بكثير من القيم التي تفخر فرنسا بها، كبرامج انتخابية تُترجَم بعد نجاح مرشحيهم قدر المستطاع.

واليوم يعود آلان جوبيه –ممثل بقايا الديغولية- إلى النزال الانتخابي، ضمن أحزاب اليمين الفرنسي، ويخوض مع مرشحيهم تجربة انتخابية جديدة تُمارَس للمرة الأولى في فرنسا، وتقوم على اتفاق الأحزاب اليمينية على مرشح، من خلال انتخابات يُفترض أن يشترك فيها أعضاء تلك الأحزاب ومناصروهم من الشعب الفرنسي، كذلك تفعل أحزاب اليسار، ثم يختار الشعب الفرنسي بين اثنين: واحدًا يمثل برنامج اليمين وآخر يمثل برنامج اليسار، وبما أن هولاند رئيس الجمهورية الحالي كان ممثلًا لليسار الاشتراكي، وبما أن عددًا من مشكلات فرنسا لم يستطع حلها، فقد حصل في استطلاعات الرأي على أدنى مستوى من الأصوات، ولأمر ما تعرّض لهجمة دعائية شرسة معادية له، دفعت حوالي خمسين مثقفًا وفنانًا للتوقيع على عريضة تدافع عنه، فقد شعروا أن تلك الحملة لا توازن الأخطاء التي وقع فيها في أثناء حكمه. وهكذا تضاءلت فرص نجاح اليسار، المتشرذم أصلًا، واكتسحت إعلانات اليمين ساحة الاستبانات، وكان اهتمام الفرنسيين بها كبيرًا.

في المناظرة التلفزيونية بين آلان جوبيه، وفرنسوا فيون -وهما المرشحان اليمينيان اللذان يُفترض نجاح أحدهما لتمثيل اليمين في انتخابات الرئاسة الفرنسية بعد أشهر- لاحظ الفرنسيون المستوى السياسي الرفيع لأدائهما، فقد عرض كلٌ منهما برنامجه في الاقتصاد والسياسة الداخلية والخارجية، وتمكن الجمهور من فهم الفوارق بينهما في نقاط اختلافهما كلها، والأهم أن الفرنسيين ارتاحوا لتميّز المناظرة بالهدوء، ومقارعة الحجة بالحجة دون إسفاف أو فضائح شخصية، كما كان يجري في الانتخابات الأميركية التي سخِر الفرنسيون من تدني مستواها، وخوفًا من تكرار تلك المشاهد، وقَّع مئتا برلماني فرنسي على عريضة تُطالب المتناظرين باحترام مستوى الديموقراطية الفرنسية في حوارهما، وعدم الوقوع في الإسفاف الأميركي، وبالفعل فقد لبى المرشحان النداء، وظهرت فرنسا في المناظرة كما تمنى الفرنسيون، كذلك كانا بعد ظهور النتائج، فقد وقف جوبيه وهنأ فيون الناجح بفارق يصل إلى الضعف، على الرغم من أن الاستبانات الأولى كانت النسبة نفسها لصالح جوبيه، وبلا شك، كانت تلك الخسارة بعيدة عن توقعاته، ولو لم يكن من المتمرسين بالديموقراطية لما وقف أمام الإعلام مصافحًا خصمه، مُقرًا بالهزيمة، لتبقى فرنسا رائدة الديموقراطية بالعالم.

أما كيف حدثت المفاجأة، وما عوامل انتصار فيون، فقد قيل في ذلك كثير، مع أنه كان لسنوات خمس رئيسًا للوزراء أيام الرئيس ساركوزي وشريكه بالأخطاء التي سببت خسارته الانتخابات الرئاسية السابقة أمام هولاند، تلك المسألة التي دفعت جوبيه إلى الظن بأنه الرابح لا محالة، وتركته كالأرنب الذي سابق السلحفاة ينام إعلاميًا في أحضان سمعة ساركوزي غير المحببة للفرنسيين، بينما فيون جعل الفرنسيين يؤمنون بأنه لم يكن صاحب القرار حينئذٍ، وبأنه يُقدّم لهم الآن مشروعًا جديدًا يُنقذ فرنسا فيه من الإفلاس، يقوم على المحافظة على الشركات الفرنسية واستثماراتها داخل فرنسا، بعيدًا عن منافسة العولمة، ويعدها بتخفيض الضرائب عليها؛ لتعود إلى الوطن، وعلى قصقصة ترهل مؤسسات الدولة الفرنسية بتسريح نصف مليون موظف خدمات، واستيعاب من يستطيع العمل في القطاع الخاص. ثم أضاف إليه ما يداعب شرائح المؤمنين بالأسرة والقيم الفرنسية الأصيلة، بإعادة النظر في مسألة زواج المثليين وحقوق تبنيهم للأطفال، ومنع الإجهاض غير المبرر طبيًا، كما ظهر بمظهر من سيعيد لفرنسا مكانتها وهيبتها العالمية، من خلال موقفه الحاسم من الإرهاب “الإسلامي”، وتهديد من يثبت عليه الإرهاب بالترحيل؛ حتى لو كان دون سن الثامن عشرة، وتحكُمٍ قاسٍ بالهجرة، وموقف ملتبس من الكارثة السورية، مجاملة لروسيا التي يريد إعادة النظر في السياسة الفرنسية تجاهها، دون أن ينسى -بالطبع- المعزوفة الدائمة لمرشحي الغرب والشرق بدعم إسرائيل، دعمًا مطلقًا، وإظهار العداء لدول الخليج المؤثرة في القرارات الإقليمية.

استطاع فيون إقناع جمهور اليمين المعتدل “كما يُطلق عليه في الأدبيات السياسية الفرنسية” ببرنامجه ذاك، على الرغم من الخروقات الواضحة فيه، فقد اعتمد برنامجه على مؤثرات أساسية ثلاث: أولها: شريحة المزارعين الكبيرة من ذوي الدخل المحدود، أو الأكبر قليلًا، والذين تضرّروا كثيرًا من سياسة العولمة واستيراد البضائع الرخيصة التي نافست إنتاجهم لدرجة كساده، وبالفعل، فقد شوهد نزولهم بكثافة لتأييده، وثانيها: دعم الكنائس الكاثوليكية، بسبب مواقفه من المثليين والإجهاض، وهو نفسه أبٌ لخمسة أطفال، وهي ظاهرة نادرة في فرنسا، والتي جعلت واعظي الكنائس يُطالبون أتباعهم بالتصويت له، كما نال دعم رجال الأعمال من خلال الوعد بتخفيف الضرائب عنهم، فآزروه بحملة دعائية ضخمة، حظي جوبيه على مثلها سلبًا إذ تعرض لحملة مستغربة باتساعها وعدائيتها لترشيحه، حتى بات أنصاره يتهامسون عن دور أجهزة أمن خارجية فيها. أما المؤثرات غير المباشرة، فأولها برنامج ماري لوبين اليمينية المتطرفة، إذ أُخذ كثير منه في برنامجه ليسحب بساطها، وثانيها تشرذم اليسار وفشله في استشعار حركة المجتمع الفرنسي ومؤثراته، وثالثها برنامج السيدة تاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا الأشهر، والذي قد تكون لزوجته الإنكليزية علاقة به، ورابعها صدى فوز ترامب ومفاجآت الانتخابات الأميركية، وخامسها التأثر الشديد للجمهور الفرنسي بالعمليات الإرهابية والعودة إلى رغبتهم في عزل ذلك العالم عنهم، وخامسها: إحساس الفرنسيين بضعف التأثير السياسي لفرنسا عالميًا، وكأنها تراجعت إلى مصاف العالم الثالث، والأهم شبح الأزمة الاقتصادية والخوف من الإفلاس، و”طحش” بوتن وسلبه أنظار العالم، بما فرضه في أوكرانيا وسورية على حساب الاتحاد الأوروبي، وأخيرًا وليس آخرًا انسحاب إنكلترا من الاتحاد الأوروبي، كل ذلك كان في خلفية أسباب تفوق فيون الذي ظهر بمظهر من سيعيد لفرنسا جميع “المجد” الذي خسرته.

وهكذا بخسارة جوبيه، الوريث الأخير للمجد الديغولي في حزب الجمهورية، تكون شمس الديغولية قد شارفت على الغياب، وهذا ما جعل بعض المحللين الفرنسيين يعتقدون أن نجاح فيون في برنامجه ذاك، هو عودة إلى الجمهورية الرابعة التي نسخها ديغول بجمهوريته الخامسة، وما أراه أن تلك العودة شبه مستحيلة، مع أن وجود ظلالها يوحي بذلك، فقد جرت مياه كثيرة في نهر السين منذ ذلك الوقت، وحدثت تغيرات من الصعب إلغاؤها، ولم يكفّ دولاب الزمن عن الدوران، ولربما يمكن القول بشروق شمس الجمهورية السادسة، على يد فيون، هذا إذا لم تحدث مفاجآت جديدة في الانتخابات الفرنسية العامة بعد أشهر عدة قد تُغيّر أحوالها، فنجاح فيون –حتى الآن- مقتصر على أحزاب اليمين، التي اشترك فيها، في الجولة الثانية، أكثر من خمسة ملايين ناخب، وهم لا يُمثّلون، على أهميتهم، سوى جزء من أمة تعدادها أكثر من خمسة وستين مليونًا، فمن يدري، قد يتوحد اليسار على برنامج قوي يُحرّك النقابات والكتل المُحبطة، وقد يستقيل جوبيه نفسه من أحزاب اليمين ويترشح كمستقل ببرنامج لا يعتمد على ردود الفعل، وإنما على معالجة عميقة للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية الفرنسية، وقد يتحالف مع اليسار المعتدل ليغني عدد ناخبيه، على الرغم من خطاب الخسارة الذي أعلن فيه عودته إلى بلدية بوردو، ففي برنامج فيون ما يحتمل الفشل، على الرغم من الصعود الصاروخي المفاجئ له، وقد تظهر فضائح تقلب إعلاميًا ظهر المجن… و… لا تزال الاحتمالات مفتوحة… ألسنا في عصر الإدهاش الذي يعجز أي استبيان أو تحليل أن يجزم فيه؟

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]